أصيبت اليابان بدهشة سلبية لدي رؤية رئيس شركة تويوتا, أكيو تويودا, يعتذر أمام الكونجرس الأمريكي بسبب العيوب القاتلة التي أدت إلي سحب 10 ملايين سيارة تويوتا في مختلف أنحاء العالم. بدا أن مشهد قبطان الصناعة في هذه البلاد الذي يفرضه الأمر الواقع, كما وصفت الصحيفة الكبري في اليابان تويودا, يرمز إلي حضيض جديد تبلغه البلاد التي تعيش حالة تراجع. فاليابان التي كانت محط خشية وإعجاب من الغرب رزحت طوال عقود تحت وطأة قادة يفتقرون إلي البريق, وتبدد الآمال بالنهوض من جديد. هذه السنة, ستتفوق الصين علي اليابان وتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن في خضم هذا كله, كان بإمكان اليابان أن تتمسك بأثر واحد من هيبتها السابقة: تويوتا, المعيار الذهبي العالمي لجودة التصنيع.
ولكن الوضع تغير. فتويوتا تتعرض للانتقادات في مختلف أنحاء العالم في رسوم كاريكاتورية تسخر من السيارات الجامحة. والتفوق في التصنيع الذي اشتهرت به اليابان طوال نصف قرن هو الآن موضع تشكيك. فقد ركزت اليابان التي احتمت خلف المظلة الدفاعية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية, طاقتها وأموالها علي بناء جانب واحد في القوة الوطنية: التصنيع ذو الجودة العالية. واستكملت السياسات الصناعية الهادفة إلي إنشاء أفضل مصانع التصدير في العالم بسياسة خارجية تتناسب مع القوة الاقتصادية لليابان.
كان بإمكان اليابان, بغض النظر عن سرعة نمو منافسيها, الصين وكوريا الجنوبية, أن تقول إن ميزتها التنافسية الأساسية هي نوعية علاماتها التجارية. يقول ريو ساهاشي, خبير السياسة العامة في جامعة طوكيو: كانت تويوتا رمزا للمعافاة خلال الركود الطويل الذي شهدناه. والمتاعب التي تمر بها تويوتا الآن ألحقت أضرارا بالثقة في نماذج الأعمال اليابانية والاقتصاد الياباني في الوقت الذي تتجاوزنا فيه الصين.
كانت هناك بعض مؤشرات الانزلاق حتي قبل قيام تويوتا بسحب سياراتها. فقد خسر عدد كبير من أبرز العلامات التجارية اليابانية الرونق الذي تمنحه إياه عبارة صنع في اليابان, كما يقول مايكل جيه سميتكا, وهو خبير اقتصادي متخصص في قطاع السيارات الياباني. لم تعد شركة سانيو موجودة, وقد بيعت قطعها في عملية إعادة هيكلة. كما تشهد شركتا توشيبا وفوجيتسو إعادة تنظيم. وليست شركة سوني مصنعة يابانية أكثر مما هي منتجة ناجحة في هوليوود. كما أن كلا من شركات ميتسوبيتشي موتورز ومازدا ونيسان عمدت إلي تمتين علاقاتها مع شركات أجنبية علي مر السنين. ففي مطلع العقد الماضي, ولا سيما في ظل إدارة رئيس الوزراء الشهير جونيشيرو كويزومي التي غردت خارج سربها, بذلت اليابان محاولات عابرة كي تسوق نفسها بأنها معقل كل ما هو جديد جدا: نانو هذا, بيو ذاك. لكن لم يصمد شيء. ليس هناك حتي الآن موقع Google ياباني.
إذن ظلت تويوتا مميزة, الوجه الأكبر وعمليا الأخير المتبقي للبراعة اليابانية في التصنيع والتجارة. ومع بلوغ رقم مبيعاتها 263 مليار دولار أمريكي العام الماضي, تبقي الشركة الكبري في اليابان بلا منازع, وأكبر مصنع للسيارات في العالم. لكن سحب السيارات من السوق كشف عن أنها هي أيضا تعاني من مشاكل عدة. فعلي غرار عدد كبير من الشركات اليابانية, حتي العالمية منها, عانت بسبب الانعزال وضيق أفق التفكير, ومن هيكلية هرمية أحبطت الابتكار أو المساهمة من الآخرين. يقول روبرت دوجاريك من جامعة تمبل اليابان إن الجزء الأكبر من الفريق الإداري الأساسي مؤلف من يابانيين, وإن ممولي الشركة هم جزء من هيكلية تويوتا العمودية, مما يحد الاتصال بأشخاص من الخارج. وكانت الاستجابة في مجال العلاقات العامة سيئة بسبب النزعات الثقافية التي تجعل اليابانيين يميلون إلي تجنب الجدال والخلاف, حتي إلي درجة الإنكار الفاضح لوجود مشاكل خطيرة, مثل دواسات السرعة الخارجة عن السيطرة.
ترمز تويوتا من نواح عدة إلي بلد ضل سبيله. فوفقا لاستطلاع أجراه معهد بيو عام 2008, اليابانيون مستاءون من الاتجاه الذي تسلكه بلادهم أكثر من أي دولة أخري, بما في ذلك باكستان وروسيا. ونتيجة لذلك, أطاح الناخبون اليابانيون في أغسطس 2009 بالحرس القديم المتمثل بالحزب الليبرالي الديموقراطي بعد نصف قرن من الحكم شبه المتواصل. وعدت الحكومة الجديدة بقيادة رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما بالتغيير, وحتي بالـثورة. وتحدث هاتوياما عن اضطلاع اليابان بدور أكبر في العالم, لكنه مؤشر معبر إلي أن سقوطه الدولي الكبير الأول كان في مسألة محلية: حض الولايات المتحدة علي تقليص قاعدتها العسكرية في أوكيناوا. وقد هبطت نسب التأييد لهاتوياما في أول ستة أشهر له في الحكم, من 75 إلي 37 بالمائة. أظهر استطلاع أجرته شركة إيبسوس ووكالة رويترز في فبراير أن 14 بالمائة فقط من اليابانيين علي ثقة بأن بلادهم تسير في الاتجاه الصحيح, وهو مستوي الثقة الأقل بين البلدان الـ23 التي شملها الاستطلاع. لقد رأي كثر في مأزق تويوتا خطوة إضافية في الاتجاه الخطأ. يقول ماسايوشي أراي, وهو مستشار خاص لدي وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية: تمثل تويوتا اليابان في مختلف أنحاء العالم في ما يختص بالثقافة اليابانية والاقتصاد الياباني. نحن فخورون بتويوتا, ولذلك أضرت هذه القصة بعزة أنفسنا.
يتوج سقوط تويوتا من القمة تململا اقتصاديا مستمرا منذ 20 عاما أصاب الثقافة الشعبية, ويتجلي من خلال تفضيل ملازمة المنزل, وتفادي المخاطرة, والابتعاد عن المنظومة الهرمية. ويقال إن جيل الأشخاص الذين هم في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر أي من هم في سن العمل وتأسيس عائلة غير مستعد للمجازفة علي الإطلاق, ولو علي نطاق صغير جدا. يمضي الأشخاص المعششون في بيوتهم أيامهم في البحث عن صفقات علي الإنترنت. ومع تراجع الأجور, يتفادي آكلو الأعشاب الخروج أو محاولة إيجاد مهنة. ووفقا لبعض الاستطلاعات, أشار هذا الجيل إلي أنه يفضل تفادي السيارات والدراجات النارية وحتي المأكولات التي تحتوي علي توابل. تعتبر ريادة الأعمال مهنة غير واعدة. وقد ارتفعت التقديرات لأعداد الأشخاص المنعزلين الذين تخلوا عن الحياة الاجتماعية. فعام 1998 تكهن العالم النفسي الياباني, تاماكي سايتو, وهو الخبير الأبرز حول هذه النزعة, بأن عدد هؤلاء اليابانيين قد يكون مليون نسمة والشهر الماضي قالت السلطات إنه قد يصل إلي 3.6 مليون نسمة. ونسبة الانتحار في البلاد ــ أكثر من 30 ألف شخص في السنة منذ 12 عاما ــ هي ضعف النسبة في الولايات المتحدة, وتحتل المرتبة الثانية بعد روسيا في مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبري, وتزداد سوءا.
لهذا كله تداعيات اقتصادية مروعة. فنظرا إلي انخفاض معدلات الولادات إلي جانب أنماط النزوح والهجرة, فإن من المتوقع انخفاض عدد سكان البلاد من 127 مليون نسمة إلي 95 مليونا بحلول سنة 2050, مما يولد ضغوطا ديموغرافية غير مسبوقة. ويتسبب تقلص أعداد السكان وبحثهم عن الصفقات وتجنبهم للمجازفة, بدوامة انكماشية, ونمو منخفض للرواتب وتراجع العوائد الضريبية. تبلغ الديون اليابانية الآن أكثر من ضعف إجمالي الناتج المحلي, وهو المعدل الأعلي في كل الدول الصناعية مع فارق كبير جدا. ففي مقال بعنوان أزمة اليابان التي تتحرك ببطء نشر في مارس, كتب كينيث روجوف, كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي, أن اليابان هي نموذج للركود الاقتصادي مشيرا إلي مكامن الخلل الأسطورية التي تعانيها في الزراعة وتجارة التجزئة والحكومة. وقد توصل إلي الخلاصة الآتية: الوضع المالي لليابان يزداد سواء يوما بعد يوم. ويبلغ مؤشر البورصة ربع الرقم الأعلي الذي سجله عام 1989, وقد تراجع سهم تويوتا 20 بالمائة منذ بدء سحب السيارات.
النظرة المتفائلة هي أن آلام تويوتا سوف تحفز اليابان, أخيرا, كي تصبح أقل انعزالا وأكثر انفتاحا علي أفكار جديدة. في البداية, أنكر كثيرون في اليابان المشكلة, ووصفوا الجدل بأنه رد فعل أمريكي مبالغ فيه, وحاكوا نظريات المؤامرة عن قيام الحكومة أو النقابات الأمريكية بتخريب سيارات تويوتا لزيادة مبيعات شركة جنرال موتورز المدعومة من الحكومة الأمريكية. لكن إدارة هاتوياما تدفع الآن نحو إجراء تغييرات في تويوتا بطرق لم يكن ليعتمدها علي الإطلاق أسلافها في الحزب الليبرالي الديموقراطي المعروفون بصداقتهم مع قطاع الأعمال, كما يقول جيف كينجستون, أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة تمبل اليابان. فوزير النقل سيجي ميهارا لم يفوت فرصة لتوبيخ تويوتا بقسوة, متهما إياها بعدم الإصغاء إلي الزبائن, بحسب كينجستون الذي يلفت إلي أن وسائل الإعلام الأساسية خلعت القفازات أيضا, وقالت إن تويوتا أحرجت اليابان في العالم, وإن عليها أن تستعيد ثقة زبائنها.
السيناريو الأقل وردية هو أن ترد اليابان علي هذا الإذلال عبر الانكفاء أكثر فأكثر في قوقعتها. فمنذ انتهاء ولاية كويزومي عام 2006, اضطر ثلاثة رؤساء وزراء إلي التنحي في غضون عام واحد. وتفهم النخبة الآن المشاكل التي تواجهها اليابان, لكن التحول الثقافي المطلوب لمواجهتها قد يكون كبيرا جدا, كما يقول إدوارد لينكولن, الباحث في الشئون اليابانية في جامعة نيويورك. فبدلا من التنافس مثلا مع الصين علي الدور القيادي في آسيا, يرجح أن يعدل اليابانيون عن الأمر فيما يراودهم شعور بالأسي علي أنفسهم, بحسب لينكولن. بعبارة أخري, سوف تستمر اليابان في الاستسلام والتلاشي وتحميل الديموغرافيا وميزان القوي الدولي المتغير مسئولية العوائق التي تعانيها. وفي هذه النظرة القاتمة, سيعود اليابانيون إلي شعار ليس في اليد حيلة. بالفعل, ربما لا يتسارع أفول اليابان الطويل, لكن الشعور السائد هو أنه ليس في اليد حيلة للضغط علي المكابح.
ستيوارت, مدير برامج وزميل رفيع المستوي لمجلس كارنيجي للأخلاق في الشؤون الدولية.
نيوزويك