يتميز عصرنا الحالي باتجاهين في تناول الأعمال الفنية, الأول هو الاتجاه الصريح الذي يكتفي بالفنون الأساسية (رسم-نحت-تصوير) ويبدع في أداء هذه الفنون ولا يتطرق إلي الفنون الحديثة, أما الاتجاه الآخر فهو تناول الأعمال الفنية بأشكال وأنماط مختلفة نتيجة خبرات متطورة عبر الزمن, ويتميز هذا الاتجاه بأنه غالبا ما يأخذ موقفا تحليليا فيجعل من الفنون الأساسية (الرسم والنحت) وسيلة للتمعن والتأمل تتفاعل مع الإمكانات الكثيرة التي يتيحها تشابك الرموز والأشكال والوسائل المعاصرة, ليصل الفنان إلي ما يمكن وصفه بـالاتجاه الفني الحديث.
ويعتبر معرض بعيون إيطالية المقام بقاعة أفق واحد بمتحف محمد محمود خليل وحرمه بالدقي -خلال النصف الأول من يونية الجاري- يمثل حدثا فنيا متميزا حيث يتناول أحدث اتجاهات الفن الإيطالي بعرض أعمال لعشرة فنانين إيطاليين يعملون في نطاق تطوير تناول الأعمال الفنية برؤية نشطة, إذ يتبنون اتجاهات حديثة لفرز جميع البيانات والعناصر والصور والأشكال وإعادة صياغتها من خلال أسلوب وفكر عميقين يشملان عنصري التأمل والاستنتاج ويقترنان بالرؤية العميقة والألغاز, مما يؤدي إلي تشكيل النسيج الرمزي المعقد لأعمالهم, لذلك قد يظن البعض أن هذه اللوحات يكتنفها غموض ما ولكن إذا نظر المشاهد برؤية ثقافية عميقة سيكتشف النطاق الواسع للدراسات البصرية للفنانين الإيطاليين والتي تصب في اتجاهات أكثر خيالا, ولعل هذا هو التطوير الطبيعي للفن الإيطالي منذ عصر الحركة المستقبلية والتيار المسمي (الميتافيزيقية) أي (ما وراء الطبيعة), ومن هذا المنطلق يمكننا تحديد بعض العناصر الرئيسية التي تميز تطور هؤلاء الفنانين, وهي عناصر تتمثل في صرامة بناء الصورة والتصميم. تتزاوج في هذا المشهد السخرية والتأملات المتعلقة بالماضي وأحداثه التاريخية والسياسية وصولا إلي الدراسات الجديدة في مجال الرسم والتصوير والفيديو والفوتوغرافي -بما في ذلك التصوير الرقمي- بالإضافة إلي النحت في علاقات متناقضة ومتعددة الأشكال مع المدن والتكنولوجيا والطبيعة, وهي علاقة تصبح فيها جميع لغات الحياة المعاصرة معروفة… هذه هي أبرز الملامح الثقافة لإنتاج الأعمال الفنية الإيطالية الحديثة.
باسيليه… والرومانسية
يعرض الفنان باسيليه Matteo Basile عدة أعمال تتضمن طباعة علي خامة الألومنيوم ليصور بها فتاة تقف بعدة أوضاع علي خلفيات مختلفة تتباين مع ردائها في تكوين رومانسي يعكس ثقافة الفنان وخبراته, فتجد لوحة (Tesututto) لفتاة تقف حزينة ترتدي رداء أحمر علي خلفية رمادية يشوب سماءها الضباب في تكوين عالي التباين بين الفتاة وخلفيتها.
تجدر الإشارة إلي أن رؤية الفنان الإيطالي تستلهم من خلط الأساليب الفنية والعصور التاريخية والتلميحات البصرية, كما أن هذه المرأة في لوحات باسيليه تعيد للذهن الأشكال والرموز الخاصة بالفنون القديمة والعصر الروماني, وهي تحتم علي الفنان اتباع مجموعة من القواعد مثل نبل الموضوع ومثالية الهدف والتظليل وإعطاء الجسم الإحساس بالكتلة, وتعتمد الرومانسية المرجوة من الفنان علي العاطفة والخيال والإلهام أكثر من المنطق,فتجد فتاة طويلة جدا في لوحته علي عكس الطبيعي, حيث إن فنان الرومانسية عادة يؤمن أن الحقيقة والجمال في العقل وليس في العين.
تشيرفيللي… والرمزية
أما الفنان تشيرفيللي Francesco Cervelli فيقدم أعمالا رمزية إلي حد بعيد, فتري في أعماله المتاهات والغصون المتشابكة والغابات والنباتات المعقدة والمياه التي تغمر كل هذه المناظر في صورة تعبر عن النفوس البشرية والأعماق النفسية, فتجد لوحة الهبوط النفسي بألوان الزيت علي القماش تمثل غابات متشابكة والنفس البشرية الغارقة في صراعات الخطوط وتحدياتها, ولعل المعاني الرمزية التي قصدها الفنان هنا تهدف إلي وضع المشاهد أمام حرية اختيار تفسير المعاني الرمزية, فالبعض قد يفسر رموزها بصراعات حياتية داخلية, وآخرون قد يفسرونها بما يدور خارج النفس البشرية من أحداث وتفاعلات وضغوط خارجية.
المدن القديمة والمستقبلية
قدم المبدعان جوناثان وفيليبو Jonathan Guaitacchi و Filippo Centenari تصورا حديثا للمدن بعد إعادة تشكيلها وتحليل كتلها لإنتاج عمل ممتزج بين القديم والمستقبلي, فنجد الأول جوناثان يقدم أشبه ما يكون بأفلام الخيال العلمي حيث يصور المدن من أعلي بدرجات ألوان قاتمة (وغامضة) الغرض منها إعطاء الإحساس بأن المدينة لا تنتهي وأن الأجسام الصناعية الخرسانية الصارمة لا نهاية لها… وأصبحت أشبه ما تكون بمتاهة لا يستطيع أحد الخروج منها.
أما الفنان فيليبو فقد أعطانا إحساسا آخرا للمدن الكبيرة المحتوية ناطحات سحاب, وقام بصياغة أعماله من خلال رؤي إلكترونية وإضاءة داخل العمل الفني, فهو عبارة عن مسطح زجاج مطبوع عليه علي إضاءة زرقاء وطباعة علي زجاج شبكي, وتعد لوحة (متروبوليولور) أهم ما يعبر عن التفاعل بين المدن الحديثة ووسائل الاتصال (الخطوط المضيئة) التي تربط أهل المدينة المتطورة ببعضهم, وبهذا استطاع فيليبو أن يفكك عناصر المباني المشكلة للمدن الكبيرة ليحولها إلي درجات لونية تنبض بالبهجة نتيجة الإضاءة والألوان الناصعة علي عكس المدن التي يصورها جوناثان والتي تحتوي ألوانا باهتة وقاتمة للمدن القديمة.
ماركو… والتجريدية
تنتمي اتجاهات الفنان ماركو Marco Colaggo إلي الفنون التجريدية والعامية حيث يصور درجات ألوان ناصعة وصريحة وموزعة بشكل متناسق ومتوازن بين القاتم والناصع, فأسلوبه التجريدي يبتعد بالرسم عن تصوير أي شكل معروف, وإنما يهدف إلي تأليف لوني أو شكلي لا يعالج موضوعا بعينه.
أنجلو.. وتشويه الوجوه
ينظر أنجلو Angelo Bellobono إلي الوجوه البشرية باهتمام صارخ لتجسيد صرامتها والتعبير عن تشويه المعالم في رؤيه شبه فوتوغرافية تعكس خلفية متوترة يعتمد عليها في تكوين أعماله النافرة, والتي تحجب الكثيرين عن التأمل فيها لفترات طويلة لما قد تصيب من كآبه مثل لوحة (تعقبت) ببخامات إكريليك علي ورق علي خشب.
دي فابيو… ومتاهات الحياة
يعرض الفنان دي فابيو Alberto di Fabio متاهات قائمة علي تراكم كثيف ومعقد من الصور الغامضة والموحية ويظهر في أعماله ما يدل علي جهود ذهنية حثيثة يتبين فيها اهتمام يكاد يكون علميا بكون متناهي الصغر, فهو يرسم تعرجات رقيقة لكنها محددة وتختلط وتتشابك مع بعضها البعض تنتمي إلي عالم وراء عالمنا الطبيعي.
ستيفانيا… والتخيلات الإعلامية
يكتنف الغموض أعمال الفنانة ستيفانيا Stefania Fobrigi مجموعات تمتزج فيها التخيلات الإعلامية وتاريخ الشعوب والأحداث محللة النظرات المتباينة للعالم المعاصر في محاولة لإيجاد رؤية للتخيلات الإعلامية التي تنتمي إلي الواقع المعقد المستعصي علي الفهم والاستيعاب.
ناردي… والتداخل الهندسي
أما الفنان Adriano Nardi فاهتم في أعماله بالتركيز علي التداخلات اللونية مستخدما أجزاء من صور وإعلانات وألوان بأشكال هندسية في تداخل بين الورق والألوان والصور الفوتوغرافية للمرأة وتحليل مساحات الألوان وأحجام الكتل واختزالها, وهذه الطريقة تسمي (الكولاج) أي استخدام القصاصات الورقية والمعدنية في اللصق لتكوين العمل الفني علي مسطحات مختلفة المستويات.
دافيد… والخطوط المنحنية
تميز اتجاه دافيد Davide salcadei بالميل لاستخدام الخطوط المنحنية للطبيعة والغابات, فهو يرسم بحساسية خاصة للانحناءات والظلال نتيجة اتجاهات الضوء والانعكاسات فضلا عن أهمية الضباب ليعطي شيئا من الغموض لأعماله الفنية يعبر عن مدي تأثيره بإطلاق العنان لفكر المتلقي للإحساس بالعمل الفني وفقا لمنظوره الخاص الذي لا يفرضه دافيد علي المتلقي.
إن معرض بعيون إيطالية يعد من بين أهم المعارض المقامة حاليا لاحتوائه أهم اتجاهات الفن الإيطالية والمدارس الحديثة في معالجة الأعمال من حيث تناول فكرة الموضوع واختيار العناصر المستخدمة في التنفيذ. إن إيطاليا تعد بالفعل مهد الفنون الأوربية منذ بداية عصر النهضة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر وحتي الآن لبراعة فنانيها وتحرر رؤي العمل الفني وتطوره المتلاحق عبر الزمن.