استولت الدهشة علي اليهود أمام تلك المعجزة الخارقة للطبيعة, ولم تستطع عقولهم القاصرة أن تدرك الكيفية التي تمت بها, ولا أن تعرف مغزاها لأنهم لم يكونوا يعرفون حقيقة الشخصية الإلهية لذلك الذي صنعها. وإذا كانوا يلجأون في مثل هذه الأمور إلي فقهائهم من الفريسيين (يوحنا11:46), جاءوا إليهم بذلك الذي كان من قبل أعمي ليستفتوهم في أمره, ولا سيما أنه كان سبت حين صنع مخلصنا الطين وفتح عينيه. وأن القيام بأي عمل في السبت خطيئة عظمي في شريعتهم (يوحنا5:9, 10) تستوجب الموت, فسأله الفريسيون هم أيضا كيف أبصرت؟ فقال لهم: إنه وضع طينا علي عيني ثم اغتسلت فأبصرت. فقال قوم من الفريسيين: إن هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت. وهكذا بلغ من غباء أولئك الفريسيين الذين كانوا يدعون لأنفسهم العلم أنهم عميت أبصارهم وبصائرهم عن أن يدركوا دلالة هذه المعجزة فلم يكن ثمة ما يسترعي انتباههم إلا أن مخلصنا قد صنع طينا وشفي به الأعمي في يوم السبت الذي لا يجوز فيه للإنسان أن يصنع شيئا أو أن يقوم بأي عمل (متي12:2). فبرهنوا بذلك علي جهلهم الواضح والفاضح لنبوءات أنبيائهم الذين تنبأوا جميعا بما سيصنع المسيح الذي ينتظرونه حين يجئ من معجزات منها أن يفتح أعين العميان. كما برهنوا علي سواد قلوبهم ومدي حقدهم علي مخلصنا وغيرتهم منه وكراهيتهم له, حتي لقد أسدل كل ذلك ستارا كثيفا يحجب عن عيونهم مجد تلك المعجزة وجلالها السماوي وارتفاعها عن مستوي قدرة البشر (يوحنا2:11), (3:2), (9:33), فلا يقدر عليها إلا الله وحده. بيد أن قوما آخرين كانوا أكثر إنصافا وأقل حقدا فقالوا: كيف يستطيع إنسان خاطئ أن يصنع مثل هذه المعجزات؟. ومن ثم وقع بينهم انقسام (أنظر يوحنا6:52), (7:12, 43), (10:19). وقد أدي بهم ذلك التضارب في الرأي إلي أن يتناسوا ما لهم من علم ومكانة في المجتمع, فاحتكموا إلي الرجل الذي كان أعمي والذي كان شحاذا فقيرا وجاهلا وفي أحط مراتب ذلك المجتمع, فقالوا له: وأنت ماذا تقول عنه وقد فتح عينيك؟. وقد كان الرجل أكثر منهم ذكاء عقل ونقاء قلب, إذ فهم كل الفهم وأدرك كل الإدراك مغزي ماصنعه به فادينا له المجد فقال: إنه نبي. (انظر متي 21:11), (يوحنا4:19), (6:14). غير أن اليهود في غباوتهم أو تغابيهم, وفي جهلهم أو تجاهلهم, وفي عماهم أو تعاميهم لم يصدقوا أن ذلك الرجل كان أعمي ثم أبصر. لأن استعادته البصر بعد أن كان أعمي منذ ولادته كان أمرا يفوق عقولهم ويتفوق علي كل مشاعرهم وأحاسيسهم. ومن ثم استدعوا أبويه, وسألوهما قائلين: أهذا هو ابنكما الذي تقولان إنه ولد أعمي؟ فكيف إذن يبصر الآن؟. وإذ كان أبوا ذلك الرجل المسكين فقيرين ولا حول لهما ولا قوة, فقد خافا من أولئك الفريسيين الذين يواجهونهما بالصلف وبالعداء والتهديد بالاعتداء. ومن ثم أجابا في خوف ظاهر وتهرب يدل علي مقدار هلعهما من أولئك الأقوياء المفترين, قائلين: إننا نعلم أن هذا هو ابننا وإننا ولدناه أعمي أما كيف يبصر الآن فلا نعلم. أو من الذي فتح عينيه فلا نعلم. إنه بالغ سن الرشد, أسألوه فيتكلم هو عن نفسه. وكان واضحا أن أبويه قالا هذا لخوفهما من اليهود, أو بالأحري رؤساء اليهود, لأنهم كانوا قد أصدروا قرارا بأنه إذا اعترف أحد بأن مخلصنا المسيح هو الذي صنع هذه المعجزة وغيرها من المعجزات يقطع من المجمع, أي يصير مغضوبا عليه من الرئاسات الدينية لليهود (يوحنا7:13), ويصبح شخصا منبوذا لا يصح لليهود أن يعاملوه ولا يصح له هو أن يعامل اليهود. وهذه أبشع وأشنع عقوبة يمكن أن تصيب يهوديا, لأنها بمثابة الحكم عليه بالإعدام. وقد ورد بعد ذلك قول الإنجيل: فقد آمن به كثيرون من الرؤساء أنفسهم, وإن كانوا بسبب الفريسيين لم يعترفوا به علنا لئلا يطردوا من المجمع (يوحنا12:42). ومن ذلك ما قيل عن: يوسف الذي من الرامة وكان تلميذا ليسوع, وإن يكن خفية لخوفه من اليهود(يوحنا19:38) -انظر أيضا (الأعمال5:13). وقد قال السيد المسيح له المجد لتلاميذه: فإنهم سيخرجونهم من المجامع (يوحنا16:2). وقد أخرجوا المولود أعمي فعلا فطردوه من جماعة اليهود (يوحنا9:34).
وقد واصل اليهود من الفريسيين وغير الفريسيين محاولاتهم المستميتة لكي ينفوا عن مخلصنا قدرته الإلهية التي يستطيع بها أن يصنع معجزات يعجز البشر عن أن يصنعوها, ومن ثم عادوا فاستدعوا الرجل الذي كان أعمي وأرادوا التأثير عليه بالترهيب والترغيب والوعد والمكافأة والوعيد بالعقاب, وقالوا له: مجد الله, فإننا نعلم أن هذا الإنسان خاطئ (يشوع7:19), (1صموئيل6:5), (عزرا10:11), (الرؤيا11:13). وفي هذا القول ما فيه من إيماء بما يتفق مع عقولهم القاصرة, ونفوسهم المريضة, وقلوبهم الممتلئة غيرة وحسدا وحقدا وضغينة وكراهية لمخلصنا له المجد. بيد أن الرجل بنفس صافية صادقة بريئة من أي غرض أو مرض أو غيرة أو حسد أو حقد أو ضغينة أو كراهية تجاه ذلك الإنسان الذي أراه الدنيا بعد أن كان لا يري بصيصا منها, وأبرأه من علة كانت ستقضي عليه بأن يعيش العمر كله في ظلام دامس لا بصيص فيه من النور, ولا بصر فيه ولا بصيرة. وإذ كان الرجل تحت تأثير المعجزة الخارقة للطبيعة التي حدثت له لم يستطع أن ينكرها. وإنما اعترف بما تنطوي عليها من مقدرة فوق طاقة البشر. فلم يرهبه إرهاب ولا عقاب, ولم يستطع أن يغريه إغراء أو يثنيه عن قول الحق ترغيب ولا وعد بالثواب ومن ثم أجاب اليهود قائلا: إن كان خاطئا فلا أعلم. وإنما أعرف شيئا واحدا وهو أنني كنت أعمي والآن أبصر.وإذا أخفقت محاولاتهم معه ارتبكوا ولم يجدوا ما يقولونه له إلا أن يسألوه مرة أخري عما سبق لهم أن سألوه عسي أن يتراجع فيما قرر أو يقول شيئا مخالفا لما سبق أن قاله فيضبطوه متلبسا بتناقض أقواله ويستنتجوا من ذلك كذبه وعدم صحة المعجزة التي صنعها معهم مخلصنا, وهذا ما كانوا يهدفون إليه من كل محاولاتهم, إذ قالوا له: ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينيك؟. فضاق ذرعا بلجاجتهم وسماجتهم وسوء نيتهم وسواد طويتهم, وأجابهم قائلا: قد قلت لكم ولم تسمعوا, فلماذا تريدون أن تسمعوا مرة أخري؟ هل ترغبون أنتم أيضا أن تصيروا تلاميذه؟ وذلك أنه هو شخصيا إذ آمن به صار تلميذا له, ولم يستطع أن يفهم من إلحاح اليهود عليه في السؤال وإلحاحهم في طلب الإجابة, إلا أنهم يريدون هم أيضا أن يؤمنوا بمخلصنا ويصيروا من تلاميذه, بيد أنهم اعتبروا هذا القول منه إهانة لهم, فشتموه قائلين: أنت تلميذ ذاك, وأما نحن فتلاميذ موسي, ونحن نعلم أن الله كلم موسي, وأما هذا فلا نعلم من أين هو. وهكذا عيروه بأنه تلميذ مخلصنا مغمضين أعينهم عن المعجزة الإلهية العظيمة التي صنعها له والتي لا يسع أي إنسان -مهما بلغ شره ومكره وغفلة عقله وغلظة قلبه- إلا أن يخر ساجدا أمام عظمة صانعها ويعترف ببقدرته الإلهية ويتبعه إلي أقصي الأرض خادما له ومتتلمذا عليه (يوحنا5:25). وقد أنكر اليهود واستنكروا أن يكونوا من تلاميذ مخلصنا, مفتخرين في زهو كاذب وصلف قلب قبيح بأنهم تلاميذ موسي (رومية2:17), لا لأنهم تلاميذه حقا, إذ أنهم خالفوا كل وصاياه (يوحنا5:45), وإنما لمجرد الاستعلاء والكبرياء. وقد راحوا يقارنون بين موسي ومخلصنا, مزهوين ومزدهين بمكانة موسي العظيمة إذ كلمه الله, ومزدرين بمخلصنا زاعمين أنهم لا يعلمون من أين جاء (يوحنا8:14), (7:28). وقد برهنوا بذلك علي جهلهم الصارخ بكتبهم المقدسة ذاتها, لأنها تتضمن أقوال أنبيائهم الذين تنبأوا جميعا بمن فيهم موسي نفسه بمجئ المسيح, وذكروا أنه هو ابن الله الذي سيجئ من السماء. كما أنهم كانوا في هذا الذي قالوه مغالطين حتي أنفسهم, لأنه إن كان افتخارهم بموسي قائما علي أساس أن الله كلمه, فهم يعلمون أن الله كلم مخلصنا أيضا وتكلم عنه وهو يعتمد من يوحنا المعمدان, إذ قال علي مسمع من كل اليهود الحاضرين: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متي3:17), (مرقس1:11), (لوقا3:22). وما من شك في أن أولئك الحاضرين من اليهود -وكان بينهم تلاميذ يوحنا- قد أذاعوا خبر ذلك القول الإلهي في كل بلاد اليهودية, فلم يعد خافيا علي أحد ولا مجهولا لإنسان, ولا سيما أن يوحنا كان يردد علي مسامع كل من يجئ إليه ما رآه وسمعه حين جاء إليه مخلصنا ليعتمد منه (يوحنا1:19-34). وإذن كان اليهود يعلمون من أين جاء مخلصنا, فإذا أنكروا ذلك فقد كانوا كاذبين ومغالطين. وحتي لو كان إنكارهم عن جهل منهم بأقوال أنبيائهم, وتجاهل لأقوال يوحنا المعمدان الذي كانوا يعدونه نبيا, فقد كان ينبغي أمام تلك المعجزة الإلهية التي صنعها مخلصنا إذ فتح عيني ذلك المولود أعمي أن يدركوا دون مكابرة أو كبرياء أن هذا هو ابن الله الذي تنبأ بمجيئه الأنبياء. ولئن حال بينهم وبين أن يدركوا تلك الحقيقة حقدهم علي مخلصنا وحنقهم عليه وغيرتهم منه, إن المولود أعمي وهو ذلك الإنسان البسيط الفقير المتواضع الذي لا يزعم لنفسه علما ولا معرفة ولا زهوا ولا استعلاء قد أدرك من ذلك الذي صنعه مخلصنا معه أنه كائن سماوي, وأنه فوق مستوي البشر العاديين, وأنه لو لم يكن بارا وطاهرا وقويا وقادرا لما استطاع أن يعيد إليه عينيه المفقودتين, بل أن يخلق من العدم عينين جديدتين, ومن ثم أجاب وقال لهم: إن في هذا عجبا أنكم لا تعرفون من أين هو وقد فتح عيني. ونحن نعلم أن الله لا يسمع للخطاة. وأما الذي يتقي الله ويعمل بمشيئته فإن الله يسمع له. وما سمعنا منذ بدء الزمان أن إنسانا فتح عيني مولود أعمي. فلو لم يكن هذا من الله, ما استطاع أن يصنع شيئا (انظر أيوب27:8, 9), (35:12), (المزمور17:41), (23:15, 16), (65:18), (144:19), (الأمثال1:28), (15:29), (28:9),(إشعياء1:15), (إرمياء11:11), (14:12), (حزقيال8:18), (ميخا3:4), (زكريا7:13), (يعقوب5:16), (يوحنا3:2).
وقد أفحم ذلك الإنسان البسيط علماء اليهود بحكمته الفطرية ومنطقه السليم. ومن ثم حنقوا حنقا شديدا عليه وهم المتعالون الزاعمون لأنفسهم الحكمة كلها والمنطق الذي لا منطق بعده. فأجابوا وقالوا له: في الخطيئة قد ولدت أنت بجملتك, أفأنت تعلمنا. وهكذا لم يجدوا غير الشتائم يوجهونها إليه, والافتراءات يفترنها عليه, لأن الرجل إن كانت أمه قد ولدته أعمي وفقيرا معدما حتي اضطر أن يستعطي من الناس, فإنه لم يولد في الخطيئة, ولم يكن خاطئا (يوحنا9:2, 3) وإذا لم يكن لديهم الدليل علي ذلك لكي يتهموه, اكتفوا بأن شتموه. وإذ انهزموا أمامه وعجزوا عن الرد عليه لم يجدوا أمامهم إلا العنف -وهو السبيل الوحيد أمام الضعفاء- فطردوه من أمامهم في غلظة وفظاظة, وعدوه منبوذا من المجتمع اليهودي (يوحنا9:22, 35-41), (3يوحنا:10).