عشية السابع من نوفمبر من العام 2000، وقفت السناتور المنتخبة حديثاً، هيلاري رودام كلينتون من ولاية نيويورك، لتخطب في جمع من مؤيّديها المهللين لها في منهاتن، فتعهدت بالذهاب إلى واشنطن للعمل من أجل إلغاء “الهيئة الانتخابية” التي باتت “بالية العهد وغير ديمقراطية” بدليل أنها فشلت في إنتاج رابح واضح في انتخابات تلك السنة لرئاسة الولايات المتحدة.
لم يفكر أحدٌ بلفت أنظارها إلى أن الدستور ذاته، الذي انتُخبت بموجبه للتو لعضوية مجلس الشيوخ، هو أيضاً قديم العهد (لأنه وُضع في العام 1789)، وغير ديمقراطي (لأن كل ولاية تتمثل بسناتورين اثنين بصرف النظر عن عدد سكانها). ولو طبّقنا على دستور الولايات المتحدة معياراً يقضي بأن تكون جميع أحكامه حديثة وديمقراطية، لن يبقى في الحقيقة شيء كثير من هذا النظام الحكومي الذي أثبت قابليته على البقاء والنجاح.
فدستور الولايات المتحدة مليء بسمات قد يعتبر النقاد على أنها قد عفا عليها الزمن، بما في ذلك نظام الفدرالية ذاته، حيث تقوم الحكومة القومية بتقاسم السلطة مع خمسين ولاية. وربما سيكون من الأكثر كفاءة للولايات المتحدة أن تدار بصورة حصرية من العاصمة القومية واشنطن، لكن الرجال الذين قاموا بكتابة الدستور لم تكن أذهانهم تتوخى الكفاءة كأولوية أولى. إذ انهم كانوا يضعون الحرية في مقامٍ أرفع من ذلك، ولهذا اعتقدوا أنه من الأسلم أن يتم تجزئة فروع السلطة السياسية. وأحد سمات هذه التجزئة يتمثل في كون الحكومة القومية، أو الفدرالية، إنما تتشاطر السلطة مع الولايات المختلفة.
أحد الأوجه الهامة للفدرالية الأميركية هو إشراك خمسين ولاية، بوصفها ولايات ذات استقلال ذاتي، في اختيار الرئيس. وهذا النظام، أي الهيئة الانتخابية، يعطي كل ولاية عدداً من الأصوات مساويا لمجموع عدد أعضائها الممثلين لها في كل من مجلسي الشيوخ والنواب، حيث تحصل كل ولاية على عدد من المقاعد متناسب مع نسبة عدد سكانها. والمرشح الرئاسي الذي يكون قادراً على الفوز في الاقتراع الشعبي في عدد من الولايات حيث تُشكِّل أصوات ناخبيها أكثرية مجموع الأصوات في مجمل “الهيئة الانتخابية” (في الوقت الحاضر هي 270 من أصل 538) يصبح هو الرئيس.
يدفع منتقدو هذا النظام بالحجج لمصلحة سهولة الانتخابات المباشرة، وبساطتها. إذ ما عليك سوى القيام بإحصاء الأصوات في مجمل البلاد، متجاهلاً مجاميع الأصوات التي نالها المرشح في كل ولاية بمفردها، ومن ثم تُعلن اسم المرشح الفائز. فلو تبنت الولايات المتحدة مثل هذا النظام، فإنه سوف يولّد دافعا لدى المرشحين لتركيز حملتهم الانتخابية الرئاسية في الولايات الأكثر كثافة بالسكان فقط وذلك كسباً لأكبر عدد من الأصوات فيها، وسيتجاهلون بذلك بقية الولايات ذات العدد الأصغر من السكان.
أمّا الهيئة الانتخابية فمن شأنها أن تجبر المرشحين على تعدّي المراكز السكانية الكبيرة والقيام بحملاتهم أيضاً في الأماكن الأخرى التي ربما كان سيتم تجاهلها في نظام انتخابي مباشر. فقد يكون ممكناً، من الناحية النظرية على الأقل، للمرشحين اختصار حملتهم الرئاسية فقط على الولايات الاثنتي عشرة الأكثر كثافة سكانية، والفوز بهذا بالرئاسة. وهذا يعني أن المرشحين سيكون لديهم سبب هام لتجاهل الولايات الأخرى الثماني والثلاثين. لكن بموجب نظام الهيئة الانتخابية، سوف يكون من المستبعد جداً أن يستطيع أيُّ مرشح الفوز بما يكفي من أصوات الهيئة الانتخابية إذا ما اقتصر في حملته الانتخابية على اثنتي عشرة ولاية فقط من الولايات الأكثر سكاناً. فأي مرشح ديمقراطي للرئاسة يمكنه على الأرجح أن يعوِّل على كسب أكثرية الأصوات الشعبية في ولايتي نيويورك ومساتشوستس. كما أن أي مرشح جمهوري للرئاسة قد يعوِّل على أكثرية أصوات ولايات تكساس، ونورث كارولينا، وجورجيا. إلا أنه لكي يفوز بمئتين وسبعين صوتاً في الهيئة الانتخابية اللازمة له من أجل الوصول إلى البيت الأبيض، فإن أي مرشح سوف يحتاج للحصول ليس فقط على أصوات الهيئة الانتخابية في الولايات الكبيرة التي توصف بأنها قد تميل في أي من الاتجاهين، أو الولايات المتأرجحة مثل أوهايو وفلوريدا حيث تكون قوة كل من الحزبين أكثر توازناً، فحسب بل وأيضاً على أصوات الهيئة الانتخابية في الولايات الأقل سكاناً أيضاً. وحيث أن كل ولاية يمكن أن تكفل للمرشح ثلاثة أصوات في الهيئة الانتخابية على الأقل، فإنه لا يمكن للمرشحين إهمال حتى مثل هذه الولايات الصغيرة.
ونظام الهيئة الانتخابية يكفل أيضاً التقليل من احتمال انتخاب مرشح شديد الولاء لمنطقة واحدة، بسبب أن ما من منطقة واحدة بحدِّ ذاتها في البلاد تحتوي على عدد كافٍ من أصوات الهيئة الانتخابية اللازمة لاختيار الرئيس. يُركّز منتقدو نظام الهيئة الانتخابية فقط على أعداد الأصوات العامة، بينما يشدّد المدافعون عن هذا النظام على كيفية توزّع هذه الأصوات، وعلى ما إذا كانت آتية من مقطع واسع من الولايات وتضم مناطق البلاد بأسرها.
كما أنه، على امتداد التاريخ الأميركي، ساهم نظام الهيئة الانتخابية في الحدّ من إمكانية مرشح حزب ثانوي، أو مرشح حزب ثالث، في المنافسة على الرئاسة. وبعض الناقدين للنظام الحالي قد يشيرون إلى هذه السمة باعتبارها صفة سلبية تشوب الحياة السياسية الأميركية، لكن نظام الثنائية الحزبية قد أثبت انه يخدم الولايات المتحدة بنجاح. فهو إذ كان يفرض درجة من الاعتدال في السياسة الأميركية، أصبح هذا النظام عنصراً أساسياً في استقرار البلاد. وهو نظام لا يشجع على نمو الحركات المتطرفة، ولكنه، وفي الوقت نفسه، لو قام حزب أو حتى مرشح ثانوي باقتراح آراء أثبتت شعبيتها لدى الناخبين، فمن المرجح أن يبادر أحد الحزبين الكبيرين إلى تبني هذه الآراء. وقد ينجح مرشح متطرف في كسب الأصوات الشعبية، وكذلك أصوات الهيئة الانتخابية، في ولايات قليلة فقط، مثلما حصل مع ستروم تيرموند وحزبه الداعي إلى العزل العنصري في انتخابات العام 1984، ولكنه مع ذلك يبقى من غير المحتمل له أن يفوز بالرئاسة. ورغم أن هناك مجال للمعارضة في السياسة الأميركية في ظل نظام الهيئة الانتخابية، إلا أن التطرف لا يلقى تشجيعاً في هذا النظام.
وأبعد من ذلك، إننا نجد أنه بينما لا يشجع نظام الهيئة الانتخابية على التطرف السياسي إلا أن الجماعات الأقلية العرقية والاثنية يمكنها أن تقوى في الحقيقة في ظله. فالاثنية اللاتينية على سبيل المثال تُشكِّل ما يوازي 12% فقط من عدد سكان الولايات المتحدة كما تُشكِّل نصيباً هو حتى اقل من ذلك في مجموع أصوات المقترعين. وفي نظام الانتخابات المباشرة، سينخفض تأثير هذه الجماعة بشدة، لكن أعدادها تبقى كبيرة بما يكفي في بعض الولايات لكي تحصل على نفوذ لا يستهان به. ففي اريزونا، التي كانت دائماً تميل إلى أن تكون ولاية متأرجحة سياسياً، تبلغ نسبة المتحدرين من أصل لاتيني فيها حوالي 25%، وهو ضعف نسبتهم العددية العامة في البلاد. وهذا ما يعطي هذه الجماعة الأقلية مزيداً من النفوذ السياسي في ظل نظام الهيئة الانتخابية، أكثر مما كانت ستحصل عليه في ظل أيّ نظام آخر. ويشبه ذلك ما يحصل في ولاية مثل فيرجينيا، حيث يُشكِّل عدد الاميركيين السود حوالي 20% من عدد سكانها وبالتالي فإنهم يجعلون الحياة السياسية في هذه الولاية أكثر تنافسية بكثير.
وفي الخلاصة، يبقى هناك سؤال كبير يتعلق بعافية النظام السياسي الفدرالي. فإن واضعي الدستور رأوا في تقسيم السلطة ما بين الحكومة القومية، وحكومات الولايات ضمانة هامة لحماية حريات الأفراد، ومع هذا، فإن ثمة ميل قد ظهر في السنوات الأخيرة تجلىّ في قيام الحكومة الفدرالية بالاستيلاء على مزيد من السلطة في نواحٍ كانت تقليدياً تقع تحت مسؤولية حكومات الولايات. لذلك فان القيام بإنقاص نفوذ حكومات الولايات حتى إلى درجة هي أبعد مما هي الآن، عن طريق إلغاء الهيئة الانتخابية، إنما سيكون بمثابة قطع واحد من الأعمدة السياسية الرئيسية للنظام السياسي الذي طالما صمد أمام جميع التحديات التي اعترضته خلال 220 سنة من التاريخ الأميركي.
يو اس جورنال