إن مفهوم قيام رأي عام في المملكة العربية السعودية, التي تتبع سرية تامة في العديد من قراراتها, يكاد يشكل تناقضا لفظيا. فمن الصعب الوصول إلي بيانات ثابتة, وحتي أكثر ندرة الحصول علي معلومات حول القضايا الخلافية الراهنة والحساسة استراتيجيا, والتي تشمل: وجهات نظر حول القيام بعمل عسكري ضد إيران, والفساد وحالة الحريات المدنية داخل المملكة, والتطرف الديني وتنظيم القاعدة, وجمع التبرعات لمنظمات جهادية أخري. ومع ذلك تمكنت من الحصول بالضبط علي هذه الأنواع من البيانات من خلال العمل مع ##مؤسسة بيختر لاستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط##, وهي مؤسسة أبحاث مقرها في مدينة برينستون في ولاية نيوجرسي الأمريكية, وكذلك مع فريق مسح إقليمي معترف به.
كانت النتائج فاتحة للعيون, حيث سيوافق ثلث الرأي العام في المملكة علي توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد البرنامج النووي الإيراني, وحتي ربع الرأي العام, هو علي استعداد للقول بأنه سيؤيد قيام عملية عسكرية إسرائيلية. وترغب غالبية كبيرة من السعوديين إجراء انتخابات محلية, التي تم تأجيلها لمدة عامين. وتقول أيضا أغلبيات محكمة من السعوديين إن الفساد والتطرف الديني تشكل مشاكل خطيرة في بلدهم. وفي الوقت نفسه, يقول 36 في المائة من المستطلعين إن التبرع بأموال لـ ##المجاهدين المسلحين الذين يقاتلون في أماكن مختلفة في جميع أنحاء العالم## هو ##واجب شرعي##, ولكن نحو نصف هذه النسبة المئوية فقط عبرت عن أصوات مؤيدة لتنظيم القاعدة.
ومع ذلك, فإن النتائج الأكثر إثارة في هذا الاستطلاع, هي عدم تصنيف أي من هذه القضايا الساخنة في مرتبة عالية جدا في جدول أعمال الجمهور مقارنة بالقلق الاقتصادي. وفي الواقع, حددت الغالبية العظمي من المواطنين في المناطق الحضرية في هذا البلد الغني بالنفط, التضخم أو البطالة أو الفقر, كأهم الأولويات الوطنية في المملكة العربية السعودية.
مثلت عملية جمع البيانات لاستخلاص هذه الاستنتاجات تحديا فريدا من نوعه, ولكنها لم تكن مستعصية وبعيدة المنال. وهناك مجموعتان من الصعوبات العملية التي تحد من قابلية المستطلعين الذين يعملون في هذا البلد المحافظ الذي يخضع لرقابة متشددة, وهي: قيود سياسية أو ثقافية, وتحديات معينة عند اختيار العينة المناسبة لإجراء الدراسة. ولحسن الحظ, فبعد أن عملت مدة 25 عاما في هذا المجال, تمكنت من وضع بعض الحيل من أجل جمع المعلومات في مثل هذه المجتمعات. إن إحدي الأدوات القيمة للغاية, التي ابتكرتها في المنطقة خلال الأزمة بين العراق والكويت عام 1990-1991, هي ##تحميل## بعض المسائل السياسية ##علي ظهر## مسح لمنتجات تجارية — تتعلق بالسيارات, وغسيل شعر الرأس – الشامبو, وجماهير وسائل الإعلام, وشركات الطيران,…. كل شيء تقريبا. لقد أصبحت الآن هذه الدراسات الاستقصائية عادية في معظم البلدان العربية; وتتمتع تقنية الاقتراع هذه, التي هي ##سلاح ذو حدين##, بسجل قوي. إن هذه الاستراتيجية نافعة حيث إنها تحد بصورة كبيرة من احتمالات تدخل السلطات المحلية, وفي الوقت نفسه, تتمتع بمزية إضافية حيث تضع المشاركين في مواقف أكثر سهولة تتعلق بتساؤلات ##تؤدي إلي قيام المشارك في الاستبيان بالإجابة علي الأسئلة الصعبة## قبل التطرق إلي القضايا الاجتماعية أو السياسية الحساسة.
وأحيانا, يمكن أن يكون الانتقال من موضوع إلي آخر محرجا بعض الشيء, لكنه ينتهي بسلاسة. فخلال منتصف التسعينيات من القرن الماضي, وبينما كنت أرصد دراسة استقصائية في إحدي القري العربية, ألحقنا عددا كبيرا جدا من المسائل السياسية المباشرة مع دراسة طويلة حول تسويق — من بين كل الخيارات المتاحة — اللعبة البلاستيكية لصنع النماذج الميكانيكية للأطفال ##ليجو##. وقد كان أحد المشاركين في الاستبيان علي اقتناع بأنه يجب أن تكون هناك صلة من نوع ما بين السياسة ولعبة ##الليجو##, واستمر مصرا يطلب مني أن أشرح له كيف أن الموضوعين مرتبطان. لست متأكدا من أنني كنت قادرا علي إقناعه بأنه لا توجد هناك حقا علاقة بين الاثنين, باستثناء الفرصة المناسبة للجمع بين موضوعين ليس لهما صلة الواحد مع الآخر بالإضافة إلي التوفير في التكاليف في استطلاع واحد. ومع ذلك, فحتي تلك المقابلة قد أسفرت عن أجوبة واضحة, ومدروسة, وعلي ما يبدو أيضا ردود صريحة تماما علي جميع الأسئلة الواردة في استمارة الاستبيان, سواء كانت عن لعبة ##الليجو## أو السياسة.
وفي الشرق الأوسط, ينظر إلي استطلاعات الرأي التي تجري عن طريق الهاتف, بعين الشك بالرغم من أنها مغرية ومن السهل تنظيمها. لذلك تعتبر رديئة بصورة متميزة مقارنة بالمقابلات الشخصية, وخاصة فيما يتعلق بأي شيء مثير للجدل. فيجب اختيار الأشخاص الذين يقومون بإجراء الاستطلاع من سكان المنطقة, مما يتيح لهم الانخراط بسهولة في المجتمع, ولكي يضمنوا أيضا مشاركة المواطنين السعوديين فقط في اختيار العينات المناسبة لإجراء الدراسة, وليس الملايين من العمال الضيوف الناطقين بالعربية _ كما لا يجب مشاركة المحليين [الساكنين والعاملين في المنطقة], لأنهم معروفون شخصيا في الحي. كما أن المراعاة التامة للتفريق بين الجنسين هي أمر حيوي أيضا: النساء يجرون مقابلات مع النساء; والرجال تجرين مقابلات مع الرجال.
كما أن الظاهرة الثقافية المشتركة الأخري هي الرفض الواسع الانتشار للاعتراف بالجهل, حتي عن أشياء غامضة أو تافهة. لذلك, عندما تطرح أسئلة حول ما إذا كان المجيبون مطلعين علي مختلف المواضيع أو القضايا, قد يكون من المفيد إدخال مصطلح وهمي تماما ليكون مشمولا ضمن قائمة الأسئلة, كوسيلة للتحقق من الواقع. وقال 70 في المائة — وهي نسبة ملحوظة — من الجمهور في هذا الاستطلاع السعودي الذي جري في المناطق الحضرية بأنه كان علي علم بـ ##مجلس الشوري##, الذي هو مجلس استشاري بحت معين من قبل الملك, والذي نادرا ما يذكر في الأخبار من ناحية تحقيقه إنجازات حقيقية علي أرض الواقع. وعندما أعود وأتأمل في الماضي, كنت أتمني لو سألت أيضا ##سؤال تحكم## للتحقق من صحة هذا الرقم.
في استطلاع تجاري أجريته مؤخرا في مصر والأردن, علي سبيل المثال, سألت عما إذا كانت بعض الأسماء التجارية أمريكية أم لا _ فقد ##اخترعت## علامة تجارية ##من لا شئ## أسميتها جورج _ ملابس رياضية, ووضعتها علي قائمة الاستطلاع جنبا إلي جنب مع علامات تجارية حقيقية مثل معجون الأسنان كريست, و زيروكس, و نسكافيه. وكما توقعت, فقد أجاب ما يقرب من نصف المصريين والأردنيين عن رأي ما, حول ما إذا كانت جورج _ ملابس رياضية هي علامة تجارية أمريكية أو غير أمريكية _ علي الرغم من أن الحقيقة هي أن لا وجود لها علي الإطلاق. وفي إسرائيل أيضا حصلت علي نتائج مماثلة علي أسئلة وهمية من هذا القبيل. والدرس المستفاد هو أنه يجب اتخاذ الاستنتاجات حول أسئلة مماثلة في هذه البلدان بتشكك. إنني فعلا لست متأكدا لماذا يبدو أن المشاركين في استطلاع كهذا في الولايات المتحدة وأوربا هم أكثر استعدادا ليقروا بأنهم لم يسمعوا عن شئ ما; ولكن إذا تم متابعة السؤال بسؤال آخر يتعلق بنفس الموضوع, غالبا ما يعبر هؤلاء عن رأي حوله علي أية حال!
ويمكن أيضا أن تظهر إلي حيز الوجود قضايا تتعلق بالترجمة, وتنطوي أحيانا علي استنتاجات كبيرة. فعلي سبيل المثال, كان أحد الأسئلة في الاستطلاع السعودي الحالي, والتي طرحت أصلا باللغة الإنجليزية تتعلق بدعم ##المجاهدين المسلحين##. وقبل الموافقة علي نسخته النهائية, عاد هذا السؤال [من الطباعة] وهو يشير إلي زلة صغيرة في الحرف السادس من الكلمة الثانية حيث أشار إلي — ##المجاهدين المسلمين##, وكان لا بد من تصحيح الكلمة علي عجل قبل أن يتم طبع الاستبيانات بصورة نهائية.
وعندما يتعلق الأمر بالتحديات الفريدة حول اختيار عينة مناسبة لإجراء الدراسة تكون ممثلة للسكان في المملكة العربية السعودية, كان يتوجب تكييف الأساليب المثالية للتعامل مع الواقع المحلي. ففي مثل هذا المجتمع التقليدي, حيث أن استطلاعات الرأي العام هي نادرة للغاية, هناك فقط قلة من الناس الذين اختيروا بصورة عشوائية ويكونون علي استعداد لدعوة أشخاص غرباء تماما إلي منازلهم, لكي يقوموا بالإجابة علي أسئلتهم الفضولية — بل وحتي هناك عدد أقل سيوافق علي القيام بذلك إن كان هؤلاء من النساء. وستكون النتيجة بمثابة مسح ناقص ومتخلف باعتراف الجميع, ولكنه مع ذلك يمثل المراكز السكانية الرئيسية — وهو أفضل بكثير من التخمينات, والنوادر, والمفاهيم التقليدية التي غالبا ما تؤخذ بعين الاعتبار لتحليل آراء الرأي العام السعودي.
إن الطريقة الأساسية المطبقة في المملكة العربية السعودية هي استخدام عينات ##مختلطة## لإجراء الدراسة. ولتحقيق ذلك, اختير حوالي 100 موقع بصورة عشوائية, وتم توزيعها وفقا لحجم السكان. ولو كان ذلك استطلاع مثاليا لكانت قد اختيرت الأسر بصورة عشوائية مطلقة, ولكننا اضطررنا إلي استقصاء المشاركين في الاستبيان وفقا لـ ##توصية## أو عينة مرجعية (كرة الثلج). وفي كل موقع, قام أحد المشاركين في الاستبيان, بإحالة الشخص الذي أجري المقابلة إلي أسرة أخري, التي لم تجر معها مقابلة _ وقد اتخذت هذه الخطوة لكي لا ##يوصي## الناس علي آخرين يعتقدون بأنهم سيعطون الأجوبة ##الحقيقية##. وبدلا من ذلك, قام شخص من المنزل الثاني بإحالة الشخص الذي أجري المقابلة إلي منزل ثالث. وهكذا تم اختيار المشارك المقبل في هذا الاستبيان, وكما في السابق أخذت العينات هذه المرة أيضا علي نحو عشوائي. إن هذا هو السبيل العملي الوحيد للشخص الغريب لكي يصل (بالضبط) إلي ما وراء الجدران المنزلية العالية في المجتمع السعودي من أجل القيام بإجراء مسح ما.
عندما قمنا بإجراء الاستطلاع الأخير, ضاعفنا عدد المقابلات إلي 1000 — مقارنة بالرقم العياري الذي هو عادة نصف هذا العدد في الكثير من الدراسات الاستقصائية — وذلك لكي نضمن أن تكون لدينا عينة ممثلة. ولكي نحصل علي المزيد من التأكيدات, فحصنا العينة الديموجرافية المناسبة لإجراء الدراسة (الجنس, العمر, التعليم, الطبقة الاجتماعية, والمهنة) مقابل الإحصاءات بالنسبة لمجموع عدد السكان, وإذا لزم الأمر قمنا بتعديل أرقامنا. وقد تم استخلاص هذه الإحصائيات في أعقاب إجراء مئات الدراسات الاستقصائية السابقة لأن المملكة العربية السعودية لا تنشر بيانات تعداد تفصيلية.
بالإضافة إلي ذلك, ولأسباب لوجستية وغيرها من الأسباب العملية, أخذت العينة في المناطق الحضرية فقط بدلا من جميع أنحاء البلاد. وقد شملت ثلاث مناطق حضرية رئيسية هي جدة والرياض والدمام/الخبر, التي تمتد من غرب البلاد, عبورا بوسطها, وإلي المناطق الشرقية. وهذا يعني أنه لم تؤخذ في الحسبان بعض المناطق الحضرية الكبيرة نسبيا, بما في ذلك المعاقل الأصولية السنية في مكة المكرمة والمدينة المنورة في الغرب والقصيم في وسط السعودية. كما لم تشمل العينات مراكز الشيعة في القطيف والمناطق المجاورة لها في شرق البلاد, والتي لا تسير علاقاتها – في أغلب الأوقات – بصورة سلسة مع الأغلبية السنية. إذا, ما لدينا هنا هي دراسة استقصائية عن الرأي العام السعودي في مناطق ##المترو الرئيسية##.
والسؤال هو: أي من كل هذا مهم حقا, نظرا لأن المملكة العربية السعودية لا تكاد تكون ديموقراطية بحيث يتمكن الرأي العام من إسقاط الحكومة أو حتي التأثير بصورة مباشرة علي السياسة العامة؟ إن الحقيقة العملية هي أن العديد من الحكومات الاستبدادية العربية تشعر بالقلق, وبدرجات متفاوتة, من المواقف الشعبية الرائجة في مجتمعاتها. وفي الواقع, ولهذا السبب بالذات, تحافظ بعضها, مثل مصر والأردن, علي استطلاعات رسمية مقبولة ومرضية للغاية.
وهناك صورة إيضاحية انعكست في الآونة الأخيرة: في أواخر نوفمبر 2009, وفي سياق تصاعد التوترات بين العرب والإيرانيين, أظهر هذا الاستطلاع بأن معظم السعوديين والمصريين لا يريدون أن تقوم حكوماتهم بتخصيص وقت لقناة ##العالم## الإيرانية الناطقة بالعربية, والتي تبث عن طريق الأقمار الصناعية. وبحلول شهر يناير من هذا العام, قررت إدارتا القمرين الاصطناعيين ##نايلسات## المصرية و##عربسات## السعودية وقف بث برامج قناة ##العالم## [دون إيضاح الاسباب]##. وربما لم يكن ذلك من قبيل الصدفة تماما.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالقضايا الحرجة المتعلقة بأمن الحكومات العربية الداخلي أو الخارجي, تميل هذه الحكومات إلي تجاوز الرأي العام عند الضرورة. فعلي مدي العقد الماضي, احتفظت معظم هذه الحكومات بصورة هادئة بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة, حتي عندما أثبتت استطلاعات الرأي بأن الحرب في العراق قد حولت المشاعر الشعبية باتجاه معادي للولايات المتحدة بصورة حادة. وقد أظهرت الحكومة السعودية حتي الآن حماسا قليلا تجاه القيام بحملة جادة لمحاربة الفساد, حتي في الوقت الذي تظهر فيه استطلاعات الرأي أن معظم الجمهور ينظر إلي الفساد بأنه يشكل مشكلة خطيرة. وقد اتخذت مصر والأردن مواقف صارمة تجاه حماس, علي الرغم من استطلاعات الرأي التي تشير بأن الحركة لا تزال شعبية (وإن كانت أقل من ذي قبل) في تلك البلدان.
وبعبارة أخري, تحاول معظم الحكومات العربية ترتيب الأمور بحيث تتلاعب باستمرار بين التعقل والشعبية. فعندما يكون الخيار لا مفر منه وواضح المعالم, عادة ما يفوز التعقل. ومع ذلك, غالبا ما تكون النتائج الدقيقة للسياسات العامة, خليطا فوضويا من هذين الأمرين الضروريين — فعلي سبيل المثال, قيام تعاون حذر ومتكتم مع واشنطن, والاختباء وراء وسائل إعلام رسمية وشبه رسمية مناهضة بصورة حادة للولايات المتحدة. إن تحليل آراء الرأي العام, حتي في هذه الأنظمة الاستبدادية, هي الخطوة الأولي لمعرفة سمة العزم ودرجة الفوضي التي من المرجح أن تؤثر علي اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة العربية.
فورين بوليسي