اختتمت أمس في القاهرة أعمال الملتقي الدولي التاسع للدراسات القبطية الذي عقد برعاية الجمعية الدولية للدراسات القبطية ومؤسسة القديس مرقص للدراسات القبطية.علي مدي الأسبوع الماضي جرت وقائع وجلسات المؤتمر حيث شهدت مشاركة كوكبة عظيمةمن العلماء والباحثين والدارسين المهتمين بالتاريخ القبطي-ولعلي أقول المولعين والمبهورين به.والذين جاءوا من مختلف أنحاء العالم يشاركون المصريين شغفم بالحضارة القبطية ويؤكدون من خلال أبحاثهم ودراساتهم مقدار عظمة هذه الحضارة وعمق إسهامها في التراث الإنساني.
في رصد سريع لهذا الملتقي العالمي الذي إستضافته القاهرة نجد أن عدد المشاركين فيه من المتخصصين في القبطيات بلغ نحو150 من بينهم حوالي 40من المصريين -مسلمين ومسيحيين-وتشهد خريطة البلدان التي جاء منها الأجانب علي اتساع وتشعب دائرة المهتمين بالدراسات القبطية حتي يستقيم أن نصف تلك الدراسات بأنها تجاوزت النطاق المحلي في موطنها الأصلي مصر وأصبحت محط اهتمام عالمي شأنها شأن باقي رقائق الحضارة المصرية:الفرعونية والإغريقية الرومانية والإسلامية…فقد جاءوا من20دولة هي:ألمانيا -إيطاليا-بولندة-هولندة-فرنسا-كندا-إنجلترا-التشيك-أمريكا-أستراليا-النمسا-اليونان-كريت-النرويج-إسرائيل-المجر-لبنان-روسيا-بلجيكا وأسبانيا,ومن المنطقي أن نقول أن دائرة المهتمين بالحضارة القبطية ليست مقصورة علي البلدان الممثلة في هذا الملتقي هذا العام بل قد تمتد وتتسع لجنسيات أخري ضمن الأسرة العالمية يجمعها الاهتمام بالتراث الإنساني في كل زمان ومكان.
الحضارة القبطية واحدة من روافد الحضارة المصرية وجزء من التاريخ المصري,إسهام الإنسان المصري خلال الحقبة القبطية الممتدة زهاء سبعة قرون في شتي جوانب الفكر والفن والبناء والإنتاج,والعطاء الإنساني هو جزء لا يتجزأ من مسار التاريخ والحضارة المصرية وهو بذلك ملك للمصريين جميعا شأنه شأن سائر الحقب التاريخية المتعاقبة منذ القدم إلي عصرنا الحديث…تلك حقيقة ثابتة فوق مستوي الجدل وينبغي ترسيخها تعليميا وإعلاميا وثقافيا بجانب رسوخها التاريخي والعلمي,فهي مع باقي رقائق التاريخ والحضارة المصرية تشكل معا السبيكة المكونة للشخصية المصرية والتي يكتسبها المصريون جميعا ويعيشون بها فتنعكس علي شخصيتهم وتحدد هويتهم المتفردة.
إذن النظرة الضيقة القاصرة من بعض المصريين المسلمين باعتبار الحقبة القبطية وميراثها الحضاري للمصريين المسيحيين وحدهم,والتي تقابلها نظرة مماثلة من بعض المصريين المسيحيين نحو الحقبة الإسلامية وميراثها الحضاري باعتبارها ملك للمصريين المسلمين وحدهم,هي خطيئة وطنية بجميع المقاييس تخلق فجوة بين المصريين وتقسم ميراثهم الحضاري فيما بينهم نباء علي هويتهم الدينية,وهي خطيئة آن الآوان للإقلاع عنها والإستعاضة عن تلك النظرة القاصرة بفهم أعقل وأعمق للتاريخ المصري يقدمه كنسيج واحد متماسك ومتصل عبر الحقب التاريخية يمتد ويتسع ليصبح ميراثا وملكا لكل المصريين.
إذا توفرت هذه الرؤية الوطنية سوف نشعر بكثير من الارتياح والفخر ونحن نتابع الأبحاث والدراسات التي حفل بها هذا الملتقي العالمي والتي تباري المصريون والأجانب في تقديمها وفي مناقشتها لتسليط الأضواء علي آخر ما وصلت إليه الأبحاث في مجالات بشارة القديس مرقص الرسول,وتاريخ آباء الكنيسة والقديسين,وتاريخ الرهبنة القبطية وحركة الديرية المصرية,وتاريخ المسيحية المصرية في القرون الوسطي ومراحل التحول من القبطية إلي العربية…هذا بالإضافة إلي ما أفرزه هذا التاريخ من إسهام في مجالات الثقافة والفن والموسيقي والفكر واللغة,وما خلفه من رصيد غزير من الآثار والمخطوطات والوثائق.
إن هذا الملتقي العالمي للدراسات القبطية-وهو التاسع في مسار هذه الملتقيات-أفرز كما غزيرا من الدراسات والأبحاث وتبادل الخبرات والرؤي العلمية,وأثق أن هناك جهدا دؤوبا يجري بذله لتجميع ونشر هذه الحصيلة في واحد من المجلدات العلمية المهمة التي طالما أثرتنا بها هذه الملتقيات…لكن هذا إن تم سوف يظل إضافة قيمة يحتفي بها الدارسون والمتخصصون والمعنيون بالحضارة القبطية دون غيرهم,وذلك لأن نصيب الملتقي من التغطية والمتابعة الإعلامية كان محدودا نتيجة طبيعته العلمية المتخصصة,وهنا يبرز الجانب الآخر الإعلامي الذي لا يقل أهمية عن الحصيلة العلمية الغزيرة وهو كيف يمكن تقديم تلك الحصيلة إلي المصريين جميعا باعتبارها جزءا من ميراثهم التاريخي والحضاري.