في البلاد التي شهدت مآسي طائفية دموية مثل لبنان ورواندا وبوروندي وكوسوفو شاع مصطلح يعرفه أهل السياسة هو ”القتل علي الهوية”. يعني ذلك أن يدفع الشخص حياته ثمنا لانتمائه إلي هوية معينة, حتي إن لم يرتكب خطأ يعاقب القانون عليه, أو يراه الناس تصرفا معيبا. في الحالة المصرية هناك مصطلح أخف من ”القتل علي الهوية” هو ”العقاب علي الهوية”. والمقصود به أن يعاقب الشخص علي خطأ لم يرتكبه, أو حالة ملتبسة لم يصنعها, والسبب الوحيد هو كونه قبطيا. وعادة, إن لم يكن غالبا, لا يرتبط بصلة قرابة أو معرفة بالأشخاص الذين يشتركون في إثارة الحادث الطائفي منذ البداية.
بعض الأحداث الطائفية تندلع بسبب بناء أو إصلاح كنيسة, وبعضها الآخر بسبب خلافات شخصية عادية أطرافها مسيحيون ومسلمون, لكنها تتطور إلي حالة من العقاب الجماعي علي الهوية يلاحق المسيحيين في سلامتهم الشخصية, وأرزاقهم, وحياتهم الاجتماعية. لماذا تحرق متاجر للمسيحيين- مثلما حدث في إسنا الأسبوع الماضي – لمجرد أن شابا مسيحيا تشاجر مع امرأة مسلمة مثلما يشاع؟. ولماذا تحرق وتنهب بيوت في قرية ”بمها” بالعياط لخلاف حول بناء كنيسة؟. وهو نفس المشهد الذي جري في كفر دميانة بالشرقية والعديسات بالأقصر وغيرهما. هذه الحالة الشائعة علي مدار عقود تثبت أن هناك تنميطا للشخص القبطي, وتحويله إلي ”عدو رمزي” في ذهنية قطاع من المسلمين, وهو ما يستدعي استهدافه في حالات الأزمة.
استغربت- كثيرا- من الرغبة في ”حصار” الموقف في إسنا بمظاهرة استعراضية لإثبات الحب المتبادل بين المسيحيين والمسلمين. المعلومات الواردة من هناك تفيد بأن الكثيرين من عقلاء المسلمين لم يعجبهم ما جري, وسعوا إلي إيقافه قدر المستطاع, ومنهم من فتح بيته لحماية الأقباط هناك. فالمسألة ليست بين مسيحيين ومسلمين, ولكنها بين مواطنين أبرياء ومجرمين. هذا هو التوصيف الصحيح للمسألة, والمطلوب هو التعامل معها علي صعيد القانون, وليس المشاعر. فمن يعوض الضحايا؟ ومن يزيل حالة الغضب والخوف في إسنا سوي التطبيق الرادع للقانون؟. وليس مقبولا أن تنفرد القيادات الدينية في إسنا بالحديث باسم هؤلاء الضحايا في هذا الموقف, ولكن القضية لابد أن تأخذ مجراها القانوني, مثل أي جريمة اعتداء علي ممتلكات الغير حتي لو لبست شكلا طائفيا. هؤلاء مواطنون ضحايا. ولا معني للحديث عن المواطنة إن لم يكن لهؤلاء الضحايا الحق في اللجوء إلي القانون بصفتهم مواطنين, وليس حشرهم في صلح عرفي طائفي بصفتهم مسيحيين.
لا مخرج من سيناريو الأحداث الطائفية المتكرر علي نفس المنوال سوي التطبيق الرادع للقانون علي المعتدي, مسلما كان أو مسيحيا. فما معني تنظيم صلح شعبي لا يعالج آثار الجريمة. إذا حدث ذلك, فسوف تجري مكافأة الجاني مرتين. مرة بالسماح له بأن يحطم ويخرب وينهب. والمرة الثانية عندما نتركه حرا طليقا, ليس هذا فحسب, بل نصر علي تسليحه بصلح وهمي. دولة المواطنة الكاملة لا تنفصل عن دولة القانون, فلا مواطنة بلا قانون, ولا قانون بلا مواطنة. هذه هي الإشكالية التي لم ننتبه إليها بعد, ونصر دائما علي الحلول الأمنية, والمداولات الريفية, والاستنجاد بالعلاقات الدينية والعشائرية.