العالم العربي يحمل في باطنه فائضا من الطائفية, تكفيه وتكفي غيره من المجتمعات. الاستحقاق الرئاسي في لبنان فتح المجال أمام تساؤلات ”ملتبسة”, أهمها هو الخوف علي الدولة في ظل حالة من حالات الطائفية ”الشرسة” التي لا تريد أن تكون الدولة مجالا حيويا لتنافسها, لكنها ترغب في أن تتمدد علي أنقاض الدولة ذاتها. الملفت أن المشكلة ليست لبنانية فقط.
يعرف المجتمع العربي فوائض من الطائفية, في شكل جماعات دينية, أو مذهبية, أو عرقية متصارعة. من العراق إلي الصومال مرورا بلبنان الحالة شديدة الالتهاب حيث تعطل ”الطائفية” العملية السياسية في المجتمع, مما يؤثر علي الدولة ذاتها. ومن مصر إلي اليمن مرورا بمجتمعات الخليج تبدو الطائفية ”كامنة” حينا, و”ساخنة” أحيانا. تؤرق الدولة والمجتمع, لكنها لم تصل إلي حالة يمكن القول معها إن الدولة في خطر, أو أن المجتمع علي شفا تبعثر. الدولة والمجتمع في حالة تماسك, ولكن الخطر قائم أيضا.
هناك أسباب حقيقية وراء صعود الطائفية- بشكل متنام- بعد مرور نحو خمسة عقود علي استقلال الدول العربية في عقدي الخمسينيات والستينيات.
1 -الإخفاق في تحقيق التنمية, والعجز عن سد احتياجات السكان واللجوء إلي التكوينات الدينية والمذهبية لسد هذه الاحتياجات, وتنامي معدلات الفساد الذي ينخر في عظام الدولة, والتلكؤ عن الوفاء بالمطالب الديمقراطية, وأخيرا السعي لتمديد الصيغ الحالية للحكم مهما كانت التنازلات المقدمة خارجيا.
2- توظيف ”الدين” أو”المذهب” في إنتاج شرعية جماهيرية تواجه بها النظم الحاكمة عجزها عن الإنجاز. كان من شأن ذلك تسييس التكوينات الدينية والمذهبية, وفتح شهيتها السياسية, ودفعها لتقديم نفسها لاعبا أساسيا في ظل ضعف الدولة, وترهلها.
3 -اللجوء إلي سياسات ”رديئة” في إدارة التنوع الديني والمذهبي, أسهمت في تمديد المشكلات, وتعميق الأحقاد التاريخية, وتنشئة أجيال علي استعذاب فكرة الاضطهاد في مواجهة النخب الحاكمة, وربما في مواجهة أصحاب الأديان أو المذاهب التي تأتي منها هذه النخب.
4 -حداثة العهد بمؤسسات المجتمع المدني, وعدم قدرتها علي تعبئة الجماهير علي أساس ”المصلحة” أكثر من ”الانتماء” إلي الطائفة, وحصار النظم العربية لها, أدي في النهاية إلي عدم قدرتها علي خلق شبكة أمان اجتماعية مدنية, في الوقت الذي نجحت فيه القوي الطائفية في خلق رأسمال ديني, شعبوي وتعبوي.
المشكلة الحقيقية أن المجتمعات العربية بات يعتريها فيروس التفكيك, والبديل الوحيد والقادر علي إنجاز هذا السيناريو هي المشروعات الدينية والمذهبية المتطرفة, والتي تغذيها ماكينة للتنشئة الطائفية, إعلاميا وتعليما. ولجأت الدولة القومية ”الجريحة” في المنطقة العربية إلي المراجع الدينية بحثا عن شرعية, وثبات, وقدرة علي المواجهة. وهكذا أصبح المواطنون يدارون عبر الماكينة الطائفية بالوكالة, إما لحساب قوي سياسية داخلية, أو مشروعات سياسية خارجية. الحل يبدو صعبا, لكنه أحد ضرورات البقاء في هذه المنطقة. المطلوب هو إعادة بناء الدولة الحديثة بكل ما تحمله من قيم القانون, والمدنية, والتحديث الإداري والتقني, والمشاركة, والمساءلة. كل من الدولة ”المعاصرة” والمشروعات الطائفية قادت في- في تحالف غير مقدس- إلي عرقلة بناء الدولة ضمانا لبقائهما معا, وبات من الضروري أن نتخلص منهما معا, بحثا عن دولة جديدة يحكمها عقد اجتماعي مختلف.