اختلفت أشكال التسول في المجتمع المصري. قد تجد شابا وسيما يقترب منك بحثا عن جنيه, وقد تجد رجلا وإمرأة, ربما يحملان طفلا, يقتربان منك بحثا عن أجرة الطريق إلي بلدتهما. سيدات فقيرات,تكدن تمشين بصعوبة, يحملن أكياس مناديل تبحثن عن ##حسنة##. في فترة الأعياد تتحول البلد إلي جيش من المتسولين, وكلما اشتدت وطأة المشكلات الاقتصادية, زادت مشكلة التسول. يكفي أن نتأمل المشهد في الاحتفال بعيد الاضحي.
المشكلة أن الحكومة المصرية علي مدار خمسة عقود لم تف بوعودها التنموية, وهو ما جعل المشكلة في تفاقم, وقضية الفقر في ازدياد, وتحول الفقراء إلي متسولين, وتحول أبناء الطبقة الوسطي إلي فقراء جدد. هناك دول كانت مثل مصر في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الخمسينيات والستينيات, لكنها في بضع سنوات حققت قفزات اقتصادية مهمة, انعكست علي نوعية الحياة, ونمط توزيع الثروات, من الهند إلي البرازيل مرورا بفنزويلا. ولكن يبدو أن مصر تقترب في حالتها من دول أفريقيا.
في شهر رمضان الماضي, تكاثر الشحاذون. وبلغ الأمر إلي الحد الذي جعلهم يتظاهرون أمام سفارة قطر بحثا عن بضعة جنيهات, نفحة من جناب السفير. في السابق, كان الباحثون الاجتماعيون يشكون, وينتقدون نظام ##الكفيل## في الخليج, بوصفه عبودية مقنعة. ونسمع كل يوم عن مصريين تهان كرامتهم في دول الخليج, وآخرها الحكم بجلد الطبيبين المصريين, ولا تستطيع حكومتهما ##النظيفة## أن تفعل شيئا. ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يتظاهر المصريون أمام سفارة دولة أخري بحثا عن بضعة جنيهات, ويضطر الحرس للتعامل معهم بغلظة وجفوة, بالهراوات وخراطيم المياه, إلي أن تكرم جناب السفير, وأعطاهم نفحة من كراماته, من ماله الشخصي- حسبما ورد في الأخبار التي تناقلتها الصحف- وليس من المال العام.
المشكلة ليست حكومية فقط, ولكن في بعض- وليس كل- رجال الأعمال البخلاء. لا يتحملون مسئولية إجتماعية إلا في أضيق الحدود. في يوم قلت لأحد ##كبار## رجال الأعمال إن هناك مسئولية اجتماعية تقع علي الرأسمالية المصرية, فانتفض غاضبا وقال لي ##بلاش الكلام الاشتراكي##, قلت له: هذا ليس كلاما اشتراكيا ولكنه كلام رأسمالي من الطراز الأول, لم أتعلمه في الاتحاد السوفيتي ولكن في جامعة بريطانية, لأن مفهوم المسئولية الاجتماعية نبت في الغرب.انظر كيف تبني المستشفيات, والجامعات, وينفق علي المشروعات الاجتماعية في أعتي الرأسماليات الغربية, حتي تعرف ماذا يعني أن يكون الرأسمالي متحملا مسئولية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه. بالطبع لم يعجبه كلامي. وكيف يعجبه هذا الكلام, وبين ظهرانينا رجال أعمال يشترون أحزمة من ذهب أو أحجار كريمة لراقصة, أو ينفقون الملايين علي حفلات أعياد الميلاد, وسهرات ##الأنس##, وخلافه.
إنني لا أخشي فقط الفقر, ولكني أخشي- بالأحري- الأمراض الاجتماعية التي تصاحبه, وأهمها الجريمة. يكفي أن نتأمل صفحات الحوادث في الصحف اليومية لنري التحول في كم وكيف الجرائم التي يرتكبها المصريون, ولم تكن هذه الجرائم معتادة من قبل. المشكلة تبدو في تقبل المجتمع لها ولم يعد ينتفض لحدوثها, وهو أسوأ شيء نتوقعه.