شهور الصيف الطويلة تثبت أن المجتمع المصري لا يعرف الحيوية السياسية الطبيعية مثل غيره من المجتمعات. كل ما يعرفه حين تتعطل السياسة, ويسافر السياسيون إلي المصايف, هو نوع من المساجلات المصطنعة حول قضايا هامشية, تجعل الصحف مفتوحة, والصحفيون يعملون, ويتقاضون أجورهم. أدي ذلك إلي وجود حالة ##كمون سياسي## أطول من حالة ##الحراك السياسي الدائم في المجتمع##.
هذه الحالة تعود إلي أسباب بعيدة الجذور ينبغي دراستها بجدية.
المجتمع المصري لا يعرف قوي سياسية واجتماعية ناضجة في حالة حوار وحراك, تعاون وتشابك, جدل وانقسام. كل ما يعرفه هو وجود حزب يعبر عن الدولة المصرية بصرف النظر عن اسمه, قد يكون الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني, وتيارات إسلامية محافظة وراديكالية علي أقصي اليمين. خلاف ذلك توجد أحزاب معارضة ضعيفة وهامشية, يسمع الناس عن الصحف التي تصدرها أكثر ما يسمعوا عنها. هذه الحالة لا يمكن أن تنتج حيوية سياسية. والحزب الوطني- مثل أي حزب حاكم – لا يرغب في الحيوية السياسية التي تنال منه. فقط يجبر عليها عندما يجد منافسيه يتحدونه بأطروحات قوية, فيضطر إلي التعديل والتجديد حتي لا يفقد حضوره السياسي, وشبكات العلاقات والتحالفات التي يستند إليها. إذا غاب البديل, أو كان أسوأ مما هو قائم, فمن البديهي أن تختفي الحيوية السياسية, وتصبح بلا معني, وربما بلا مبرر. أكثر من هذا, أن الحيوية السياسية التي تولدها الأحزاب والقوي السياسية في مصر – في جانب كبير منها – تترتب علي المشكلات التي تتسبب فيها, والخلافات علي السلطة التي تنشب داخل كل منها, وفي علاقاتها بعضها بعضا, أكثر ما تترتب علي التنافس السياسي في المجتمع.
اللافت للنظر أن كل مظاهر الحيوية السياسية التي عرفها المجتمع المصري أتت بمبادرات ##فوقية##, ولم تكن حصيلة نضال شعبي أو جماهيري ممتد حتي يمكن استثمارها. الرئيس السادات وضع دستور عام 1971, وقام بتعديله في مايو .1980 أدخل نظام المنابر لتفكيك الاتحاد الاشتراكي في منتصف السبعينيات, وفوجئ المجتمع المصري بالأقلام تنتقد الاتحاد الاشتراكي ولم يكن أحد يجرؤ علي الحديث عن هذه القضايا علنا لولا ضوء أخضر من ##قمة النظام##, ثم ألغي السادات نظام المنابر, وأتي بالتعددية الحزبية. وكان يتصور أن الأحزاب سوف تعارض نفسها في مشهد كاريكاتوري مما يخلق حالة من الديموقراطية الشكلية, إلا أن هذه الأحزاب عارضته شخصيا, وعلا صوتها مع جماعات الإسلام السياسي, فتغير الحال سريعا,وسمع المجتمع المصري, وربما العالم, لأول مرة تعبير هو ##الديموقراطية لها أنياب##. انتهي المشهد بإيداع رموز المعارضة والمثقفين في السجن. في عهد الرئيس مبارك جاءت الدعوة إلي تعديل المادة (76) من الدستور عام 2005, ثم الانتخابات الرئاسية في العام نفسه, ثم تعديل 34 مادة من الدستور في عام 2007, بمبادرات ##فوقية##, ولا يمكن لباحث سياسي منصف أن يقول إن كل ذلك يعبر عن حالة حراك سياسي في المجتمع, أو استجابة لضغوط مارستها قوي سياسية أو اجتماعية لها حضور في الشارع السياسي, لأنه لو كان الحال كذلك فلماذا تأخرت سنوات طويلة؟.
وللحديث بقية…