يسهل علي المرء أن ينسي الاغتيالات السياسية, والخوف من الصواريخ النووية السائبة ومن شبح العنف الإسلامي, عندما يكون جالسا علي مقعد في متنزه هيل بارك. هذا المتنزه بأعشابه المشذبة والمستكين في أحضان منطقة طبيعية بسيطة يلعب فيها الأولاد في الشوارع ويتمشي فيها أصحاب المنازل نحو النادي الرياضي المحلي أو المتجر العام الصغير, يطل علي جزء من مشروع سكني فسيج واسع من النوع الذي قد تشاهده في جنوب كاليفورنيا. لكن هذه المنطقة, التي تدعي مدينة البحرية, تقع علي تخوم إسلام آباد. وبمساحتها البالغة 182 كيلومترا مربعا, تعد, وفقا للإعلانات الدولية المثيرة, أكبر مشروع خاص في آسيا, ورغم مشاكل باكستان السياسية والأمنية المعروفة, يعمد الناس إلي توقيع صفقات تتعدي قيمتها المائة ألف دولار لشراء منازل ووحدات سكنية وشقق أسرع مما يمكن تشييدها. يقول سلمان أحمد خان, مدير التسويق والعمليات في المشروع, والذي تقتضي مهمته الأساسية إغواء الزبائن المحتملين بالابتعاد عن دبي واجتذابهم إلي مدينة البحرية: ”الأزمنة تتبدل في باكستان. إن الباكستانيين يسافرون ويشاهدون الأشياء الجميلة في الخارج ونحن نريد توفيرها لهم في ديارهم”.
هذا الملعب المستغرب وجوده هنا والمخصص للباكستانيين الأثرياء هو الرؤيا التي راودت مالك رياض حسين, وهو مقاول باكستاني ملياردير يبلغ من العمر 59 عاما. مدينة البحرية الواقعة بين العاصمة إسلام آباد وشقيقتها روالبندي هي ”تحفة” حياته المهنية التي تمتد علي 40 عاما, وهي عبارة عن مشروع بقيمة ستة مليارات دولار قام بتمويله بمفرده تجنبا لاضطراره للتعامل مع مستثمرين أجانب. إن مراحلها التسع التي يصعب, لاتساع مساحتها, تقدير قيمتها تمام التقدير من دون الوقوف علي إحدي الهضاب التي تطل عليها, ستتشابك في يوم من الأيام لتشكل مدينة سكنية منظمة تأوي مليون نسمة. لقد انطلق المشروع عام 1996, وقد أصبح اليوم قسم كبير من الممتلكات الـ50 ألفا الفخمة التي يضمها المشروع الإنمائي ملكا لمغتربين باكستانيين أثرياء انهالوا علي مدينة البحرية بعد هجمات 11 سبتمبر لشراء منازل ثانية لهم خشية إقصائهم من مدن مثل لندن, ونيويورك ولوس أنجلوس. لقد كان للأمان والهدوء اللذين توفرهما مدينة البحرية الدرجة نفسها من الأهمية عندهم, فاستدرجا المغتربين الباكستانيين وعددا من العرب المسلمين الأثرياء بعيدا عن أمكنة مثل دبي.
يوفر المجمع خدمات وتسهيلات (عناصر أمن مسلحين علي مدار الساعة, ومدارس, ومستشفيات, ودائرة إطفاء, ومتاجر بيع بالتجزئة, ومطاعم ومراكز ترفيه) تفوق جودة ونوعية الخدمات والتسهيلات المتوفرة في الكثير من المجمعات السكنية المحمية التي راجت جدا في بلدان تمتد من الولايات المتحدة إلي البرازيل. ونظرا إلي المشاكل الأمنية في باكستان, يسهل جدا فهم الأسباب التي تجعل الأثرياء يرغبون في عزل أنفسهم عن العالم هنا. شركات البناء والمقاولة الباكستانية المنافسة, ومن ضمنها شركة يمتلكها الجيش, بدأت في نسخ نفس الرؤية, وتبني مجمعاتها السكنية المحمية الخاصة في ضواحي مدن باكستانية كبري مثل كاراتشي.
أما رب العمل نفسه فيبني موقعا آخر مماثلا في مدينة لاهور التي يقيم فيها أصلا رئيس الوزراء السابق نواز شريف داخل مجمع سكني محمي يدعي المدينة النموذجية.
لقد استلهم أصلا مجمعه الضخم من مدينة رستون التي صممت مسبقا في ولاية فرجينيا, والواقعة علي تخوم العاصمة واشنطن. أما المواد ومصادر إلهام التصميم فتم استيرادهما من مختلف الأمكنة. ففي وسط مستديرات الطرقات تقبع نوافير إسبانية عملاقة تبلغ كلفة كل منها 500 ألف دولار, أما الشوارع الرئيسية فمرصوفة الجوانب بأشجار نخيل جيء بها من تايلند, أما مصدر العشب في ملعب الجولف المحلي فهي ولاية جورجيا الأمريكية, وخبير التربية والتعليم للجامعة التي يجري بناؤها علي مساحة 1100 فدان هو من مدينة سياتل. يقول حسين – صاحب المدينة: ”عندما أري أمريكا, عندما أري بريطانيا, عندما أري تركيا, عندما أري ماليزيا, لا يخطر في بالي إلا السؤال التالي: ما المانع في أن تكون باكستان مثل بلادهم؟.
ها هي فكرة حسين الأساسية, إن مدينة البحرية تبعد كل البعد عن مقاتلي طالبان والقاعدة, وعن عملية اغتيال بنظير بوتو وعمليات التفجير الانتحارية الأسبوعية. قال حسين لنيوزويك: ”هذه هي باكستان الحقيقية”..
لكن في باكستان الحقيقية أعمال عنف أيضا. فوفقا لموقع الإنترنت المختص بتوفير المعلومات عن أعمال الإرهاب في جنوب آسيا, لقي عام 2007 ما لا يقل عن 1523 مدنيا مصرعهم خلال أعمال تتعلق بالإرهاب, وتعرض أكثر من ضعفي ذلك العدد لإصابات جسدية. وقد قتل العام الماضي 441 باكستانيا آخرين نتيجة أعمال عنف مذهبية. صحيح أن معظم المجازر وقعت في الإقليم الحدودي الشمالي الغربي السريع الاشتعال, والذي يسيطر عليه المقاتلون الإسلاميون, إلا أنه وقعت أيضا عمليات تفجير في إسلام آباد ولاهور أدت إلي مقتل العشرات من المتفرجين الأبرياء. لا عجب إذن أن ينجذب أصحاب الإمكانات المادية إلي مدينة البحرية, التي يتولي فيها ضباط جيش متقاعدون مهمات مستشارين أمنيين, وجنود مشاة سابقون مهمات رجال الشرطة. ثم إن المصادر المستقلة للتغذية بالطاقة الكهربائية والشركات الخاصة بتنظيف الشوارع تعفي السكان من الانقطاعات اليومية المثيرة للحنق للتيار الكهربائي في مدن مثل إسلام آباد ومن روائح النفايات الكريهة في الشوارع.
لا حدود لتركيز حسين وطاقته التي يبذلها لتوفير كل ذلك. فهو يستيقظ في مقر إقامته في إسلام آباد الساعة السادسة من صباح معظم الأيام, ويستقبل مديري المشروع, والسياسيين المحليين والأصدقاء إلي وجبة الإفطار, ثم يقود سيارته إلي موقع المشروع وسط موكب مدجج بالأسلحة. وهو يسهب في إعطاء الوقائع والأرقام حول المشروع بمعرفة موسوعية, ويقول إنه كثيرا ما يجري تعديلات علي مخططات المراحل التي لا تزال قيد التطوير وذلك بهدف تحسينها. لقد أضاف إلي مدينة لاهور نسخة طبق الأصل من ساحة ترافالجار الموجودة في مشروع مدينة البحرية. ولحسين خبرة في إعادة الابتكار. فمع أنه ولد في كنف أسرة ميسورة, فقد أفلست شركة مقاولات والده, وأرغم بالتالي وهو في عمر الـ19 عاما علي الانطلاق في حياته المهنية موظفا صغير الشأن في إسلام آباد. إنه يتذكر بكل وضوح اضطراره, بعد ثلاثة أعوام, إلي بيع قسم من أواني أسرته الفضية لكي يشتري الدواء لابنته المريضة البالغة من العمر سنتين. يقول حسين في معرض إشارته إلي أن مدينة البحرية تحوي أيضا آلاف البيوت الجاهزة المنخفضة الكلفة: ”لم أنس يوما أني كنت فقيرا”. مع ذلك, لا يمكن للمرء ألا يلاحظ أن مدينة أحلام حسين مخصصة بصورة أساسية للباكستانيين المنتمين إلي الطبقة الاجتماعية العليا الذين ”يرغبون في ملذات الحياة”, حسبما يقول خان, مدير التسويق.
يقول حسين إنه لم يكن من شأن وفاة بوتو إلا زيادة تحفيزه علي دفع مشاريعه الإسكانية الرائدة إلي الأمام. وهو يزعم أن حالة عدم الاستقرار في باكستان لم تؤثر في المبيعات في مدينة البحرية. أما علماء الاقتصاد الباكستانيون علي غرار قيصر بنغالي فلا يشاركونه الرأي بتاتا: ”هناك عدد كبير من مشاريع الإسكان التي توقف العمل فيها لأن أسعار العقارات انخفضت في السنة الماضية”. برغم ذلك, يقول حسين إنه متفائل حيال المستقبل, لا سيما أن الانتخابات العامة التي جرت الشهر الماضي اتسمت بنسبة هدوء وشفافية أعلي من التي توقعها الناس. سوف تتسلم حكومة مدنية جديدة مقاليد السلطة في الأسابيع المقبلة بعد أكثر من ثمانية أعوام من الحكم العسكري الذي أعاق ازدهار الاقتصاد الباكستاني (لقد شهد معدل نمو بلغت نسبته 7 بالمائة العام الماضي, متخلفا عن نمو اقتصاد الهند المجاورة بنقطتين تقريبا). إن الفساد, والرشاوي وتعقيدات المعاملات الإدارية متفشيا في البلاد.
نيوزويك