رغم الإغراء الذي تمارسه علينا المقارنات التاريخية بين ثورة وأخري وبين الحالة العامة في بلد معين ومثيلتها في بلد آخر, فإنه يتعين من الناحية المنهجية توخي الحذر عند إجراء المقارنات وإسقاط النماذج المحلية علي بلدان قريبة أو بعيدة والسعي إلي تعميمها, لا سيما فيما يتعلق بنجاح ##ثورة الياسمين## في تونس وتمكنها في ظرف وجيز من إسقاط نظام بن علي الذي ظل جاثما علي صدور التونسيين سنوات عديدة.
وضمن هذا الإطار, فقد ذهب بعض المراقبين إلي أن ما جري في تونس سينسحب بنفس السهولة واليسر علي باقي دول المغرب العربي بحكم التاريخ المشترك والجوار الجغرافي, وأن السبحة ستكر بعد ذلك في العالم العربي لتسقط الأنظمة تباعا.
والحال أنه من الصعب تخيل, أو توقع انهيار الأنظمة في العالم العربي بالشكل الذي شهدناه في تونس ومصر بالنظر إلي الاختلافات والتمايزات المهمة بين كل بلد وآخر سواء تعلق الأمر بطبيعة الأنظمة نفسها, أو بالتجربة التاريخية المختلفة من دون أن ننفي بالطبع التأثير الكبير لانتشار الأخبار والصور وصعود المطالب المنادية بالإصلاح السياسي.
وقد رأينا كيف أن بعض البلدان في العالم العربي سارعت إلي فتح نقاش حول الإصلاح, أو خصصت موازنات مالية لمحاربة البطالة وإعادة تواصلها مع شرائح الشعب استباقا لأي تفكير قد يؤلب المجتمعات علي الأنظمة.
ولا بد من الإشارة هنا أن سبب هذا النزوع إلي إسقاط مع حصل في تونس ومصر من ثورات علي سائر البلدان العربية وانتظار تداعي أنظمتها هو الإغراء الذي يمارسه علي المراقبين ما حصل في أوربا الشرقية بعد انهيار الشيوعية, وتحديدا في النصف الثاني من عام .1989
ففي غضون أشهر قليلة تهاوت جميع الأنظمة التي كنا نعتقد إلي فترة قريبة أنها قوية, ولا يمكن زعزعتها لنفاجأ بأنها تتساقط مثل أوراق الخريف.
لكن قبل التسرع لتشبيه الأنظمة العربية بتلك التي سادت في أوربا الشرقية قبيل سقوطها علينا أولا النظر إلي الاختلافات, فقد كانت جميع أنظمة أوربا الشرقية الشيوعية تتوحد في نقطة مشتركة تتمثل في خضوعهم لنفوذ قوة خارجية كبيرة هي الاتحاد السوفييتي الذي كان يحدد سياسات هذه البلدان من موسكو ويفرض عليها هيمنته الايديولوجية, لذا لم تكن تلك الأنظمة ذات شرعية مكينة لدي المواطنين وهو ما يفسر سرعة انهيارها ما أن أعلن جورباتشوف فك ارتباطه بالمعسكر الشرقي, فاتحا المجال أمام كل بلد لرسم سياسته الخاصة به من دون تدخل سوفييتي. وبالطبع لا يمكن القول إن دول المغرب العربي, أو الدول العربية الأخري تجمعها فكرة أيديولوجية مفروضة عليها من الخارج, هذا بالإضافة إلي التمايزات الخاصة بين الدول العربية نفسها, فكما رأينا لم تعقب ثورة تونس انتفاضة مشابهة في بلد مغاربي كما توقع البعض, بل قفزت الثورة إلي مصر, وذلك رغم التشابه التاريخي بين دول المغرب العربي الأساسية وهي المغرب والجزائر وتونس.
ففي الجزائر علي سبيل المثال مازال هناك شبح الحرب الأهلية قائما ويمنع الناس من الانخراط في عمل احتجاجي كبير قد يعيد الشبح إلي الحياة, حتي لو كانت مطالب الناس مشروعة في معرفة مآل عائدات البترول الكبيرة ومطالبهم الأخري فيما يتعلق بحق العمل والسكن.
لكن وخلافا لدور الجيش في تونس يبقي دوره في الجزائر مغايرا تماما, إذ أنه في الحالة الأخيرة يحكم من وراء الستار ويعين الرؤساء; أما في المغرب فالوضع مختلف أيضا مقارنة بتونس والجزائر, حيث توجد علي الأقل حرية فكرية كانت غائبة في الحالة التونسية, وحتي إذا كانت هناك فوارق اجتماعية كبيرة في المغرب, يبقي النظام السياسي نفسه أكثر انفتاحا, كما أن الملك دائم الحضور في الميدان ويحظي بشعبية خاصة.
واللافت للنظر أنه من بين جميع بلدان المغرب العربي لا يمكن القول إن أيا منها يشبه الحالة التونسية مثلما تشبهها مصر مع أنها ليست مغاربية, فالنظامان في البلدين يشتركان في غياب الحرية وتفشي الفساد في محيط الحكم, وقد جاءت احتجاجات ميدان التحرير التي انتهت بسقوط النظام المصري الذي حكم البلاد ثلاثة عقود, لتؤكد هذا التشابه, لكن حتي في ظل هذا التقارب بين مصر وتونس في طبيعة النظام وطرق اشتغاله وسيطرته علي الحياة السياسية تبرز أيضا فروق لا بد من الإشارة إليها, فالمؤسسة العسكرية في مصر وخلافا لما هو عليه الحال في تونس, تمارس السلطة ولا أعتقد أنها ستتخلي عن دورها حتي بعد تخليها عن الرئيس, وفي المقابل لا مجال للمقارنة بين الأهمية الاستراتيجية لمصر وأهمية تونس, هذا ناهيك عن الجوار مع إسرائيل الذي لا شك يلعب دورا مهما في دفع الغرب إلي الاهتمام بطبيعة النظام القادم في مصر.
وبالنظر إلي الحراك الثقافي والنضالي العريق في مصر فإنه من غير المرجح أن تتوقف الثورة عند حدود تنحي مبارك, بل ستستمر مطالب الإصلاح السياسي العميق.
لكن ما يجري في العالم العربي علي اختلافه وصعوبة الانجرار وراء فرضية الدومينو لن يبقي حبيس المنطقة, بل ستمتد تداعياته وتصل أصداؤه إلي أفريقيا وآسيا, فالأمر لا يقتصر علي الشعوب العربية التي بدأت تنتفض بل نجد التململ الشعبي في أي بلد ينتمي إلي العالم الثالث وتغلب علي سكانه شريحة الشباب التي نالت حظها من التعليم وتنامي لديها الوعي بضرورة تغيير التعاقد القائم بين الحاكم والمحكوم, وتكريس علاقة ديموقراطية تسمح للشعوب بالتعبير والمشاركة السياسية, إذ لم يعد مقبولا لدي الشعوب المتعلمة والمندمجة في عالم متعولم من خلال وسائل الاتصال الحديثة الانكفاء علي نفسها والقبول بأقل من الكرامة والتعبير السياسي الحر, بل والمشاركة في الحكم, وما لم تسارع الأنظمة إلي الانفتاح علي مطالب المواطنين, وبخاصة السياسية منها, فإنه قد يأتي عليها وقت تجد نفسها مضطرة للتنحي علي شاكلتي مصر وتونس.
نيويورك تايمز