خلفية تاريخية
منذ دخول المسيحية مصر تعاقب علي حكم الدولة المصرية عدد لا بأس به من الغزاة والطامعين والحكام الأجانب من الرومان إلي العرب ….إلي الأتراك والمماليك والإنجليز,وخلال هذه القرون الطويلة تمسكت الكنيسة القبطية باسقلال ذاتي فيما يتعلق بعقيدتها الدينية وولايتها الدينية علي شعبها, وقد دفعت في سبيل ذلك ثمنا باهظا وصفته مؤرخة الكنيسة الأستاذة الراحلة إيريس المصري بـ ” الامتياز الحزين” حيث إنها قدمت أكبر عدد من الشهداء في تاريخ المسيحية بأسرها لكي تحافظ علي إيمانها وعقيدتها الأرثوذكسية.
مع مجئ حكم محمد علي وتأسيس مصر الحديثة وبدء تأسيس السلطة القضائية استمر لفترة تعدد أنواع القضاء بين الشرعي والملي والمختلط… إلخ, وكان القضاء الملي هو المسئول عن الأحوال الشخصية للأقباط.
في سنة 1955 تم توحيد قضاء الأحوال الشخصية في المحاكم المدنية وصدر القانون رقم 462 لسنة 1955 المنظم لهذه المسائل ومن ثم إلغاء القضاء الشرعي والمجالس الملية وانتهي العمل بالقضاء الملي الخاص بالأقباط في 31 ديسمبر .1955
في 9 مايو1938 أصدر المجلس الملي , رغما عن رغبة البطريرك وقتها,لائحة للأحوال الشخصية تتضمن أسبابا عدة يجوز بسببها الطلاق, ومع توحيد القضاء أخذ بها القانون 462 لعام 1955, ولكن مع مجئ قداسة البابا شنودة رأي أن هذه اللائحة تخالف تعاليم الإنجيل ومن ثم أصدر قرارا كنسيا رقم 7 في نوفمبر 1971 يحدد أسباب الطلاق في علة الزنا أو تغيير الدين أو بطلان الزواج نتيجة الغش أوالتدليس في البيانات التي قدمها أحد طرفي العقد, ولم تأخذ المحاكم بهذه اللائحة.
في سنة 1980 قدمت كل الطوائف المسيحية في مصر مشروع قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين وقع عليه جميع رؤساء الكنائس في مصر وأيضا مندوبو الكنائس التي لها رئاسة خارج مصر, ولكن الدولة وضعت هذا القانون في الأدراج ولم تلتفت إليه. في عام 1998 طلب وزير العدل السابق فاروق سيف النصر إعادة تقديم مشروع القانون مرة أخري فتم تنقيحه وتقديمه مرة ثانية في عام 1998, ولم تلتفت الدولة إليه أيضا…
الكنيسة القبطية لا تمنع الطلاق ولا الزواج فهو متاح لكل المسيحيين عبر المحاكم وعبر الزواج المدني المشهر في الشهر العقاري, الكنيسة فقط تحدد معايير لمن يتمتع بعضويتها بأن يلتزم بتعاليم الإنجيل وبقوانين الكنيسة الأرثوذكسية. وإذا اعتبرنا الكنيسة ناديا للمؤمنين بعقيدتها فمن حقها مثل أي نادي أن تحدد شروطا للعضوية ,فما بال إذا كان الموضوع يتعلق بالعقيدة الدينية.
أين هي المشكلة إذن؟
المشكلة تكمن في أن آلاف الأقباط الذين حصلوا علي الطلاق من المحاكم المدنية,وأكثريتهم نتيجة تطبيق الشريعة الإسلامية عليهم عبر تغيير الملة أو بالخلع ,يريدون أن توافق الكنيسة علي زواج ديني لهم,أي يتم التطليق بالشريعة الإسلامية والزواج بالشريعة المسيحية .والكنيسة تصر علي أن تحكم الشريعة المسيحية طلاق وزواج الأقباط, مع العلم أن الكنيسة لا تزوج المطلق إلا إذا حصل أيضا علي طلاق مدني يعقبه أو يسبقه طلاق كنسي حتي لا يرتكب المتزوج مخالفة قانونية أمام الدولة.
بدأت المشكلة عندما طالبت محكمة القضاء الإداري الكنيسة القبطية بإصدار تصريح زواج لقبطي وتقدمت الكنيسة بطعن في الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا ولكن المحكمة الإدارية أيدت الحكم الأول وطلبت في حكم ملزم قانونيا البابا شنودة بإصدار تصريح زواج للشاكي.
وقد وضعنا هذا الحكم أمام إشكالية كبيرة
أولا: وضع الدولة بسلطاتها الثلاث صراحة في مواجهة عقيدة الأقباط, فالدولة رفضت إقرار قانون وافقت عليه كل الطوائف المسيحية عبر سلطتها التنفيذية التي رفضت تبني مشروع القانون وسلطتها التشريعية التي رفض أي من أعضائها التقدم بالمشروع, وأخيرا السلطة القضائية التي تريد أن تلزم الكنيسة بما يخالف عقيدتها.
ثانيا: الحكم قانونيا ملزم والامتناع عن تنفيذه هو جريمة تستوجب حبس رأس الكنيسة ,أي البابا شنودة الذي أعلن صراحة رفض الكنيسة لهذا الحكم, وهنا يمكن القول إننا إزاء صدام بين الدولة وعقيدة الأقباط والنظام السياسي الحالي أعقل من أن يفرض زواجا بالإكراه علي الأقباط أو ينفذ عقوبة الامتناع عن تنفيذ الحكم.
ثالثا:قد يقول قائل الحل في قانون للزواج المدني ينطبق علي الجميع كما يحدث في الدول المتقدمة, حيث تترتب آثار الزواج فقط علي الزواج المدني القانوني ويظل الزواج الديني اختيارا شخصيا لأعضاء الجماعات الدينية المختلفة, فكل الأقباط في المهجر يخضعون للزواج المدني وبإرادتهم الحرة يمارسون الزواج الديني.
المبدأ الأساسي أن لا تدخل في العقيدة من طرف الدولة وأن لا ولاية للقضاء أو للسلطة التنفيذية أو التشريعية علي صميم العقائد ونحن هنا ندافع بوضوح عن هذا المبدأ… وفي الأساس عن مبدأ فصل الدين كليا عن الدولة.
[email protected]