إن كثيرا من الذين اضطرتهم ظروف شبيهة للهجرة للغرب استثمروا هذه الظروف أسوأ استثمار, بأن تحولوا كارهين-وليسوا ناقدين-لثقافتهم, لهذا رفضت اللجوء السياسي, وأفخر أنني لاأزال أحمل جنسيتي المصرية وحدها, أؤكد ليس هذا تقليلا من شأن من تضطرهم ظروفهم لازدواج الجنسية, لكن حرصي منشأه تأكيد حقيقة أنني باحث ومن شأن الباحث أن يكون ناقدا للثقافة التي ينتمي إليها….الانتماء لا يعني عدم النقد…
هكذا تحدث المفكر الكبير الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد أثر الجدل الذي أثارته أبحاثه العلمية, وما أسفر عنه من معارك فكرية عنيفة خاضها بصلابة إلي أن أجبر علي السفر إلي خارج الوطن. لم يرحل أبو زيد منفردا بل صحبته شريكة العمر والكفاح الدكتورة ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي.غادرا الوطن منذ منتصف التسعينيات وهما يحملان فيضا من المشاعر والذكريات.
وفي رحلة المنفي الاختياري بهولندا ظلت مصر في العقل والقلب حتي إنه-كما ذكر- لم يحمل سوي الجنسية المصرية وحدها, مؤكدا علي انتمائه لوطنه غير ناقم أو حاقد علي من اختلفوا معه في الرأي والقناعات الفكرية إذ كان- رحمة الله- يستنكف فكرة كونه ضحية للصراع بين التفكير والتكفير.
وفي رحيله مؤخرا ترك لنا إرثا فكريا كبيرا من المؤلفات والترجمات العربية والأجنبية والعديد من الدراسات والمقالات بالدوريات العربية والأجنبية أيضا, ومع هذا وذلك تاريخا مثيرا للجدل سيقف عنده المؤرخون لتاريخ مصر المعاصر.
ومن الجميل أن تتحقق رغبة أبو زيد في احتضام ثري وطنه لجسده وانضمامه لأهل بيته في الرحلة الأخيرة…هكذا شاءت الإرادة الإلهية أن يسلم الروح في القاهرة ويدفن في مسقط رأسه بطنطا قبل أيام من حلول ذكري ميلاده في العاشر من يوليو عام1943.
رحم الله الدكتور نصر حامد أبو زيد
بين الكويت ومصر .. يا قلبي لا تحزن
دعونا نعود بآلة الزمن إلي الأربعينيات من القرن الماضي حيث ولد الدكتور نصر حامد أبو زيد في حدي قري طنطا بمحافظة الغربية في 10 يولية عام 1943, ونشأ في أسرة ريفية بسيطة, لذلك لم يستطع في البداية الحصول علي شهادة الثانوية العامة (التوجيهية) لاستكمال دراسته الجامعية, بل اكتفي في البداية بالحصول علي دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام .1960
نجح أبو زيد في إنجاز مشروعه العلمي والعملي بعد ذلك, فحصل علي الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1972 بتقدير امتياز, تفوق أيضا في رسالتين للماجستير والدكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عامي 1976, 1979 بمرتبة الشرف الأولي.
تدرج في الوظائف الجامعية من معيد إلي مدرس إلي أستاذ, كما عمل أستاذا مساعدا بنفس الكلية بجامعة القاهرة فرع الخرطوم خلال الفترة (1983- 1987).
حصل أبو زيد علي منحة مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (1976- 1977), ومنحة أخري من مركز دراسات الشرق الأوسط, جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية (1978- 1980).
أما عن الوظائف التي شغلها خارج وطنه مصر, فقد عمل أستاذا زائرا بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان (1985- 1989), وأستاذا زائرا بجامعة ليدن بهولندا بدءا من أكتوبر عام 1995, وشغل كرسي كليفرينخا للدراسات الإنسانية (كرس في القانون والمسئولية وحرية الرأي والعقيدة – بجامعة ليدن بدءا من سبتمبر عام 2000, وكرس ابن رشد لدراسة الإسلام والهيوماتيزم (الإنسانيات), جامعة الدراسات الهيومانية في أوترخت بهولندا عام .2002
حصل أبو زيد علي جائزة عبدالعزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة عام 1982, ووسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس عام 1995, وجائزة اتحاد الكتاب الأردني لحقوق الإنسان عام 1996, وميدالية حرية العبادة مؤسسة إليانور وتيودور روزفلت عام 2002, ثم جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر وتسلمها في نوفمبر عام 2005 بمعهد جوته برلين.
ترك الدكتور نصر حامد أبو زيد للمكتبة العربية أكثر من مائة وخمسين مؤلفا, بالإضافة إلي العديد من الدراسات بالدوريات العربية والأجنبية, وأيضا مؤلفات عديدة باللغات الأجنبية, نذكر من هذه المؤلفات العربية:
أدب العمال والفلاحين- 1962, أزمة الأغنية المصرية- 1964, ابن خلدون بين النظرية والتطبيق- 1977, أندريه جيبسون ملاحظات عن القصة والفكاهة- 1982, نظرية القصة القصيرة إيكيناوم أو هنري- 1983, الكشف عن أقنعة الإرهاب- 1990, محاورة مع الأب متي المسكين- 1991, المثقف العربي والسلطة- 1993, التفكير في زمن التكفير- 1994, الدفاع عن الشعر من أجل تأسيس علم البيان- 1995, دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة- 1991, هكذا تكلم ابن عربي- 2002, درس نجيب محفوظ الأدب مقاومة فكرية- 2006, شعار النهضة وشعارات الأزمة- .2009
أما عن دراساته المنشورة في الدوريات الصحفية من مجلات وجرائد فمن بينها: ثقافة التنمية وتنمية الثقافة- مجلة القاهرة- 1990, زكي نجيب محمود: غربة الروح بين أهلها- مجلة المصور 1993, الرؤيا في التراث السردي العربي- مجلة فصول- 1994, ومن مقالاته بالإنجليزية:
نظرية التأويل عند الغزالي- مجلة جامعة أوساكا للدراسات الأجنبية باليابان – العدد 72- 1986, وقد ترجمت أعماله من كتب ودراسات إلي لغات أجنبية مختلفة, كما ترجم هو بعض المؤلفات من الإنجليزية إلي العربية.
الصراع
بدأت حكاية أبو زيد المريرة تنسج خيوطها في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عندما أثارت كتاباته الكثير من الجدل وما تبع ذلك من ضجة إعلامية, وتفجرت أزمته الشهيرة بتقديمه بحثا علميا بعنوان:
نقد الخطاب الديني للحصول بموجبه علي ترقية علمية لدرجة أستاذ بكلية الآداب- جامعة القاهرة, لم يتوقف الأمر عند رفض الترقية بل أخذت المسألة منحي جديدا تماما حيث تقدم رئيس لجنة الترقيات بتقرير لاذع وخطير مفاده الاتهام بالردة والإلحاد, مما أسفر عن نشوب معركة فكرية واسعة بين المؤيدين والمعارضين, ونظرا لعدم توفر وسائل قانونية في مصر للمقاضاة بتهمة الارتداد, عمل خصوم أبو زيد علي الاستفادة من أوضاع محكمة الأحوال الشخصية ووجدوا فيها مبدأ يسمي الحسبة طالبوا علي أساسه من المحكمة التفريق بين أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس, وقد استجابت المحكمة وأمرت بالتفريق بين الزوجين, وآل الأمر إلي مغادرة الزوجين القاهرة إلي هولندا حيث عمل أبو زيد أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة ليديه وظلا هناك خمسة عشر عاما زارا فيها مصر مرات معدودات.
وفي ديسمبر من العام الماضي, منعت الكويت أبو زيد من الدخول بعد وصوله إلي المطار إثر دعوته للمشاركة في ندوة حول حوار الحضارات في الجمعية الثقافية النسائية, وأثارت دعوته ووصوله موجة استنكار عارمة شعبيا وفي البرلمان.
ومن خلال مجموعة مقالات -قد تصنف بأنها مثيرة للجدل- أثار أبو زيد أزمة أخري, حيث تناول فيها الفزع من العلمانية وفصل الدين عن الدولة, مشيرا إلي مفهوم الخصوصية -المطروح في الخطاب الديني والتي يري أنها خصوصية فقيرة جدا ومغلقة لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة وهو بعد الدين.
لم يزعن أبو زيد لهذه الاتهامات ولم يتراجع عن أبحاثه العلمية التي أثارت الجدل.
العلمانية والفن وخطاب التحريم
والزائر لرواق نصر أبو زيد علي الشبكة العنكبوتية يقرأ ما كتبه أبو زيد في 27/ 4/ 2010 تحت عنوان:
الفزع من العلمانية: فصل الدين عن الدولة فنجده يقول: إنها العلمانية التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين -هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني, الدين شأن المتدينين, ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع, وتحمي البعض من البعض علي البعض باسم الدين أو باسم هذا المعني أو ذاك لدين بعينه.. لكنه العلمانية لا يمكن أن تتأسس دون الإصلاح الديني, إصلاح لم يتحقق بعد عندنا, بل تحقق في أوربا القرن السادس عشر, لم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتي أحدثها فلاسفة أوربا, تلك الثورة التي علي أساسها تحققت الثورة الاجتماعية والسياسية التي أرست مفهوم المواطن وأحلته محل مفهوم الرعية. المفهوم الحاكم في مجتمعاتنا, رغم بلاغة الدساتير في تأكيد المواطنة بعد تحرر الإنسان من نير الطغيان السياسي, ونير التصور الكنسي للعالم, بفضل كل ما سبق- الإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي والعلمانية -تحققت الثورة العلمية.
أما الفن وخطاب التحريم فهو موضوع المحاضرة التي ألقاها الدكتور نصر أبو زيد بالجامعة الأمريكية مؤكدا أن تحريم الفنون نوعا من الاضطهاد حيث يمارس الإنسان أقصي درجات الحرية في الفنون من رسم وتصوير وشعر وتشكيل وتساءل: ماذا يبقي من الحضارة الإسلامية لو نزعنا منها هذا الثراء الفني والأدبي؟ وأضاف: أن المسلمين لم يجدوا حرجا في التماثيل التي وجدوها بالمعابد الأثرية في مصر والهند وغيرهما.
نقابة الحريات
علي أثر الأزمة التي تفجرت حول منع أبو زيد من الدخول إلي دولة الكويت لإلقاء محاضرتين ورغم حصوله المسبق علي تأشيرة دخول -قامت لجنة الحريات بنقابة الصحفيين بالدعوة لعقد مؤتمر صحفي تضامنا معه, إلا أنه عندما حان وقت المؤتمر أغلقت الأبواب أمامه, ولم يجد الحاضرون غير بهو النقابة لعقد المؤتمر الصحفي (يذكرنا هذا بما حدث ومؤتمر مصريون ضد التمييز الديني منذ عامين).
يقول أبو زيد موضحا: بعد أن تلقيت الدعوة فوجئت بأن القصة جرت كالتالي: سحبت النقابة موافقتها وقالت لمحمد عبدالقدوس مقرر لجنة الدفاع عن الحريات: لن نسمح لرجل رفضنا في العام الماضي استضافت, أن يتحدث اليوم في النقابة لم يكن ثمة من حل إلا أن تعقد الفاعلية في البهو في الدور الأرضي بلا مقاعد ولا ميكروفون, وكان هذا تنازلا من النقابة التي اقترحت عقد المؤتمر علي الدرج الخارجي في مدخل النقابة, أما قصة العام الماضي فهي كالتالي: كانت مؤسسة المورد الثقافية في القاهرة -بيروت التي حاولت أن تقيم محاضرتي عن الفن وخطاب التحريم في النقابة, ورفضت النقابة الطلب كما رفضت كل مؤسسات وزارة الثقافة استضافة المحاضرة ولم تقبل باستضافته المحاضرة سوي الجامعة الأمريكية التي عقدتها في القاعة الصغيرة دون قاعة إيوارت الكبيرة والتي كانت خالية تماما, الأمر الذي جعل أكثر من 60% من الحضور يقفون خارج القاعة, وبين الكويت ومصر يا قلبي لا تحزن…
فلسفة التأويل ودوائر الخوف
في رسالته للدكتوراه عن فكر محيي الدين بن عربي يدرس أبو زيد فلسفة التأويل عند شيخ المتصوفة ابن عربي, حيث واجه فلسفة ابن عربي في جوانبها الوجودية والمعرفية, مفاهيمه الخاصة بماهية النص الديني ودوره الوجودي والمعرفي.
يفرق ابن عربي بين ظاهر الوجود وباطنه, ويري ضرورة النفاذ من الظاهر الحسي المتعين إلي الباطن الروحي العميق في رحلة تأويلية لا يقوم بها إلا الإنسان لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود.
أما في كتابه دوائر الخوف والذي صدر بعد الحكم القضائي نجد نصر أبو زيد يحث القارئ علي السعي للتفكير الحر والتفكير بلا خوف, ولا مناطق آمنة يرسمها البعض حفاظا علي مصالحه, آملا أن يقرأ القارئ الذي خضع لضغوط التجهيل هذا الكتاب الذي سيجد فيه اجتهادات في فهم أهم قضايا المجتمع المطروحة وهي قضية المرأة, إنها اجتهادات قد يختلف القارئ معها وقد يتفق لأنها مطروحة للنقاش, وهي في النهاية اجتهادات لا يمتلك صاحبها سلطة من أي نوع لغرضها علي الناس, والأهم من ذلك أن صاحبها يقف ضد كل سلطة وأي سلطة تحول بين الإنسان وحريته في التفكير.
أبو زيد واتحاد الكتاب
نعي الأديب والناقد محمد السيد عيد نائب رئيس اتحاد كتاب مصر المفكر الكبير الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد, مؤكدا أنه كان مفكرا مجتهدا حاول أن يضيف للفكر الإسلامي, وقد تحمل الغربة طويلا حتي لا ينكسر في غربته ولا يضحي بفكره, كما أنه تعرض للكثير من المعارك نظير جرأته.
وأشار السيد عيد إلي أبو زيد سيكون إحدي الشخصيات التي سيتوقف عندها المؤرخون عند دراسة الفكر المصري المعاصر. وأضاف قائلا: أنعيه لكل القراء العرب والمفكرين المصريين, ولا أنسي اللقاءات التي جمعتني به في التسعينيات, حيث كنت أعمل في هيئة قصور الثقافة ودعوته لبعض الأنشطة فاستجاب لنا وأصدرنا له كتابا عن تأويل التراث في التسعينيات.
مسرحية تسجيلية وثائقية
أثرت حياة وفكر الراحل الكبير أبو زيد خيال المبدع المسرحي أشرف أبو جليل الذي قام بإخراج مسرحية تسجيلية وثائقية تناولت معارك أبو زيد الكفرية, وقد فازت هذه المسرحية بالمركز الثاني في مسابقة الإدارة العامة للمسرج وطبعتها في سلسلة الجوائز الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة, وقدمتها فرقة سعد الدين وهبة بالنادي الثقافي المعادي برعاية الجمعية المصرية للتنوير عام 2000 وسط حضور جماهيري مكثف تجاوز الألف مواطن.