قال كونفوشيوس قديما:عندما يشرف الموت علي العصفور تصبح زقزقته حزينة,وعندما يشرف الموت علي الإنسان ترتدي أقواله طابع الفضيلة.
إلا أن هذا القول لم ينطبق علي الراحل العظيم الدكتور محمد السيد سعيد الذي رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي بعد رحلة معاناة معالسرطانإذ لم تكن أغانيه أو عباراته حزينة علي مجد شخصي بقدر ما كان حزنا علي حال وطنه مهموما به وبناسه,فلقد رحل تاركا وراءه أحلاما لم تكتمل…اغتالها الموت بلا هوادة!!!.
ولد محمد السيد سعيد في مدينة بورسعيد في28يونية عام1950 ,ودرس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وأثناء دراسته في الكلية أسهم في العمل السياسي من خلال مشاركته في تكوين الحركة الطلابية وبعثها وتطويرها بشكل جذري من نطاق حركة 1968 إلي خطاب حركة 1972(إي إعادة الاحترام للخطاب الوطني الديموقراطي).
تخرج محمد السيد سعيد عام1972,ثم شارك في حرب 1973,وبعد أن أتم خدمته العسكرية عام1975 التحق بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام,وفي عام1984 حصل علي الدكتوراه في العلاقات الدولية من الولايات المتحدة,ثم شارك في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان,واعتقل مع عدد من النشطاء الحقوقيين عام1989,بعدها كتب بيانا باسم المنظمة تضامنا مع عمال الحديد والصلب وتنديدا باقتحام قوات الأمن المصنع وإطلاق النار علي العمال.
آمن الدكتور محمد السيد سعيد بأن حرية الاعتقاد والتعبير وقيم حقوق الإنسان والحقوق الثقافية للقوميات والأقليات هي المعاني الأساسية للحرية,كذلك الحيلولة دون احتكار السلطة من جانب أي طرف ونشر السلطة وجعلها قريبة نسببا للناس,مما جعل هؤلاء الناس أكثر قدرة علي السيطرة علي شروط حياتهم.كما أن الديموقراطية هي الكفيلة بالدفاع عن حقوق الطبقات العاملة والفقراء عبر مساومتهم هم أنفسهم.
لم يضن الراحل العظيم أو كما أطلق عليه محبوه فور خبر رحيلهالفارس النبيلأوالمحاربمن جهده وعلمه في الدفاع عن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان,وإعلاء قيم المساواة والمواطنة,والتي شارك من أجل إرسائها في إصدار الدوريات والدراسات التي تشرح وتناقش وتدافع عن قضايا حقوق الإنسان,وعن الفئات المهمشة في المجتمع,وعن المسجونين والمعتقلين بغير محاكمة,ودعا إلي التمسك بالمواثيق والقوانين الدولية التي تضمن الحريات وتلتزم الدول باحترامها.
يعتبر واحدا من أبرز المفكرين اليساريين في مصر المنتمين لجيل السبعينيات وهو صاحب مدرسة فكرية تربي فيها الكثير من الباحثين,وانضم لحرية لحركة كفاية منذ تأسيسها عام2004, ووصف بأنهيساري بين الليبراليين وليبرالي بين اليساريينوله العديد من المؤلفات والأبحاث السياسية,كما أنه كتب في العديد من الصحف مثل الأهرام,والأخبار,ووطني,والقاهرة,والتي دافع من خلالها عن المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة والحرية والديموقراطية.
لم يبحث الدكتور محمد السيد سعيد عن شهرة أو أهداف شخصية يحلم بتحقيقها لنفسه بل كانت أحلامه لبلده ولأهله,وهو الذي أنكر ذاته من أجل قضايا وطنه حتي عندما أجاب علي تساؤل حول كونه مفكرا كبيرا كان رده:لا يمكن أن أعتبر نفسي مفكرا عظيما,بمعني أنني لا أشق طريقا جديدا,ولا لدي مدرسة فكرية كبري.لست من هذا النمط أو المستوي,إنما لدي اجتهادات في الشأن الوطني والعالمي والاقتصاد السياسي والدين المقارن.
وأخيرا شغل الدكتور محمد السيد سعيد منصب رئيس تحريرالبديلالتي أسسها عام2007 إلي أن استقال في أكتوبر2008 إيمانا منه بمبدأ تداول السلطة وعدم التشبت بالمناصب,بل تركها لشباب البديل والذين يعتبرونه الأب الروحيلهم لمساندته لهم إيمانا منه بأنهم أمل هذا الوطن في تحقيق غدا أفضل.
وحينما أنشأ جريدةالبديلكان يعتقد أن الصحافة التي تنحاز إلي الفقراء والطبقات الضعيفة,وتكشف عن انحرافات الفساد التي تغري الثروة بها,سوف تحقق من الرواج ما يجعلها قادرة علي المنافسة والصمود والوقوف في وجه طغيان رأس المال والكيانات الإعلامية الكبيرة,ولكن الواقع المثير والمحزن أن الطبقات الفقيرة حين يسلب منها العلم والمال,تسلب منها أيضاالقدرة علي الفعل والمواجهة والإصرار علي التمسك بالحقوقفلم يصمد حلم البديلطويلا أمام تحديات كثيرة ومختلفة وهو ما احزنه وزاد من عذاب ألم مرضه اللعين,حتي إنه رجل في الوقت الذي تحتضر فيه الجريدة وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين ثنايا ضغوط السلطة والمال.
وكما كان الدكتور محمد السيد سعيد شخصية هادئة الطبع,وتميز بالأمانة وسعة الاطلاع والتواضع,مع جرأة في الدفاع عن الحق والنضال من أجل مستقبل أفضل لبلده,هكذا رحل في هدوء دون أن يجهد أو يكلف الدولة نفقات علاجه بل تحملته الحكومة الفرنسية كنوع من التقدير للفارس النبيلمحمد السيد سعيد وكما عاني آلام المرض عاني أيضا آلام الغربة والبعاد عن دولة لا تطيق من يختلف معها فكيف تعالجه علي نفقتها إذن!!.
فوداعا الفارس النبيل والمناضل الشجاع.