حينما تمتليء روح إنسان إلي حافتها,فلا مفر من أن تسكب أحزانها وأفراحها علي العالم, وفي آذان الناس مقولة ملهمة للأديب الروسي الشهير مكسيم جوركي: الوجدان الحر,لايعترف بالبطولة إلا لمن يجعل سبيله في الحياة تحرير الإنسان لا استرقاقه بغض النظر عن عرقه أو لونه أو عقيدته أو جنسيته..إلخ.
البطل هو القمة المتوهجة في هرم ضخم من الولع بالحرية,وكلما اتسعت قاعدة هذا الهرم استطاع أن يستوعب المزيد من الحرية,وازداد إشراق الهرم وجماله وأصبح توهجه غير قابل للانطفاء.البطل هو من درب نفسه وملأها وحررها من أجل العطاء,إنه كأس لا قرارة لها,في امتلاء مستمر وطفح مستمر.فقدر الإنسان هو أن يكون حرا ولو إننا احترقنا بنار مضيئة لخلفنا وراءنا ذكريات رائعة ترجع الأجيال القادمة صداها. من تسكنه شهوة استرقاق العقول والقلوب,لايصير بطلا وإن أحسن إلي الناس. البطل لايسترق من يحسن إليهم.
قد ينجح بطل مزعوم في إطعام أبناء أمته,فلا يبقي جائع واحد.. قد ينجح البطل نفسه في بناء المصانع والمزارع والمستشفيات ودور العبادة… قد ينجح كذلك في إحراز الانتصارات العسكرية المدوية,وفي بناء القنبلة النووية… قد ينجح هذا المخلص الزائف أيضا في محو أمية أبناء أمته فلا يبقي أمي واحد..ويبث المدارس في ثنايا بلاده,فلا يبقي مواطن لم يتخرج في مدرسة أو معهد أو جامعة..وينشر المكتبات والمسارح حتي لاتبقي قرية لاتعمرها هذه الوسائل وغيرها!يفعل البطل الزائف هذا كله, ليصادر هدية الله لأبناء أمته, وليمكن للرق في العقول والقلوب.
ووجود دور العلم,والمسرح,والمطبعة,والكتاب..إلخ لايكفي!المهم هو ما في دور العلم والمسرح والكتاب!لايكفي أن توجد الجامعة, وهل ساعدت الجامعة عندنا علي التمكين للحرية في العقول والقلوب؟!علي العكس,إنها تنتج مسوخا مشوهة!الإنسان في أمتنا التائهة في صحراء التخلف,يتغذي وجدانه الكسير بمفهوم متحجر ومبتذل للبطولة. إنه في حاجة مزمنة ومهينة إلي يد حازمة ,تتولي قيادته وتمسك بزمامه, إنه يسرف في تصور شخصية صاحب هذه اليد الحازمة وتحديد الصفات المطلوبة منه وتشتط به أحلام اليقظة التي يتمثل فيها هذا القائد بطلا ومنقذا ومخلصا للأمة يضرب التنين بسيفه دون أن ينزل عن ظهر جواده!المخلص القومي لاتنحصر زعامته في الحدود السياسية, إنه الأمل في إزالة هذه الحدود..
البطل العربي هو من يصنع الناس,لا من يعلمهم كيف يصنعون أنفسهم!
من جملة من زار عالمنا العربي,في الربع الأخير من القرن التاسع عشر رجل مفكر من الشرق-إيراني أو أفغاني الخلاف في أصله خارج موضوعنا- وملك من الغرب ساهما بقوة في ترسيخ هذا الفهم العربي-المشوه-للبطولة.
كتاب العرب ومؤرخهم ينسبون إلي السيد جمال الدين الأفغاني إنه قال في معرض الحديث عن مصير أهل الشرق الذي رآه الرجل مؤسفا إن حاجة الشرق إنما هي إليمستبد عادل!. ولكن محمد المخزومي الوجيه البيروتي الذي رافقه وتتلمذ عليه طويلا وسجل أقواله وحكمه في كتاب قيم,يضع النص بشكل آخر:لا تحيا مصر ولا يحيا الشرق بدولة وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا.وخير صفات الحاكم القوة والعدل. ويضيف المخزومي أنه سأل الأفغاني عن صحة ما ينسب إليه عن المستبد العادل فأجابه بأن المطلوب هو القوي, لا المستبد العادل, لأن الاستبداد يتنافي والعدالة. ولعل الالتباس بين القولين يعود إلي مقال كتبه رفيقه محمد عبده في مجلة الجامعة في الإسكندرية في العام 1901 جعل عنوانهإنما ينهض بالشرق مستبد عادل, وحدد فيه الأماني المعقودة هلي هذا المستبد العادل:يكره المتناكرين علي التعارف ويلجيء الأهل إلي إلزام ويصهر الجيران علي التناصف وحدد عبده خمس عشرة سنة كفترة لابد منها لإنجاح حكم من هذا النوع.
أما الضيف الثاني علي عالمنا العربي فكان الإمبراطور الألماني وليم الثاني المعروف عند العرب بغليوم !زار الإمبراطور الألماني خلال تجوله في البلاد السورية كجزء من رحلته في السلطنة العثمانية خريف 1898,قبر صلاح الدين الأيوبي في جوار الجامع الأموي بدمشق, وكان القبر من قبل مهملا وشبه منسي! انحني الإمبراطور أمام قبر صلاح الدين, ووضع عليه إكليلا ثم ألقي خطبة شهيرة.
هذان هما الإسهامان الشهيران في تأكيد الفهم العربي للبطولة اللذان خلفهما القرن ال19 لأجيالنا:شخصية صلاح الدين/ المستبد العادل! اللافت هو أنه بمرور الزمن يقوي التخيل العربي لشخصيه البطل المخلص حتي أصبح تعبير صلاح الدين المستبد العادل عنصرا رئيسيا في آلاف الخطب والمقالات, ومادة حديث يتلهي بها الجميع يلوكونها ويحللونها بأصالة وافتعال وبوعي أو بسطحية حسب الظروف وحسب نوايا أصحابها, وما يرمون إليه. فهم مشوه للبطولة تكمن فيه مأساة أمتنا!
الحالمون بالمستبد العادل,في ثقافتنا يفتقرون إلي البصيرة والإرادة والشخصية وينفرون أيضا ممن يسعي لإضاءة عقولهم وقلوبهم بمصابيح الحرية. بعبارة أخري الوجدان العربي متشبع-كما أسلفت-بفهم متحجر ومبتذل للبطولة, الحرية فيه هبة لكن ليس من الله وإنما من المستبد العادل!الحالمون بالمستبد العادل/ البطل المخلص في أوطاننا لايدخلون بل لا يجرؤن حتي علي مجرد التفكير في دخول ملكوت الحرية دون إذن!البطل العربي بائع لصكوك الحرية!
هل ثمة أمل في الخلاص؟
صحيح أن مجتمعنا غارقة إلي أذنيها في التخلف,وصحيح أن فهمها للبطولة يتسم بالتحجر والابتذال وصحيح أنها تعول في خلاصها علي مشعلي حرائق التخلف وباعة صكوك الحرية كل هذا وأكثر صحيح ولا سبيل لإنكاره!إنه ميراثنا المر!غير أن في مقدور الأبطال العظماء لا باعة صكوك الحرية أن يضيئوا مصابيح الوعي بالحرية فتتبدي لشعوبنا الكبيرة سوءة اغترابها الثقافي. معرفتنا بالحرية تشعرنا بازدواج وضعنا في الكون, فنحن مخلوقون وخالقون وحياتنا ما هي إلا تدريب علي فن الابتكار.
ولنتذكر دائما: إن الحرية المغروسة في العقل والقلب السليمين,كالحبة الملقاة في الأرض الطيبة تثمر وتعطي أكلها!وأن الأبطال أبدا لا يميتون غرس الحرية.