كانت أمسية مفرحة يوم السبت الأسبق قضيناها مع قداسة البابا شنودة الثالث في رحاب دير الأنبا بيشوي العامر ببرية شيهيت احتفالا بالعيد السادس والخمسين لرهبنة قداسته… كم كان مفرحا أن نرصد خلال هذه الاحتفالية مسيرة أب الآباء نحو الرهبنة, منذ أن اتجه الأستاذ نظير جيد إلي البرية وما تلاها من عطاء للراهب أنطونيوس السرياني الذي اختارته العناية الإلهية بابا وبطريركا وخليفة لمارمرقس الرسول فتمتد الكنيسة القبطية لتشع بنورها في كل أرجاء المسكونة… كانت أمسية مفرحة كما استرجعنا فيها الذكريات الحافلة بالعطاء لصاحب القداسة غبطة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية ورأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
* في مداعبة لطيفة من قداسة البابا شنودة الثالث -كما عودنا- تساءل قداسته:
* * يحتفلون بالعيد السادس والخمسين لي في الرهبنة ولا أعرف ماذا يقصدون بهذه السنوات الطويلة… ربما يقصدون سنوات عمري التي قضيتها مرتديا الجلباب الأسود… فأيام في الرهبنة أيام قليلة قضيتها في الرهبنة… أما الأيام التي قضيتها بعيدا عن البرية في مصر أو أجول مكرزا في أمريكا وأستراليا وكندا وبلاد في أفريقيا تركب الأفيال فهي لا تعد أيام رهبنة… فحياة الرهبنة هي حياة الوحدة, وأنا لم أحيا في الوحدة إلا أياما قليلة.
* واصطحبنا قداسته إلي حياة الرهبنة في حياته… قال:
* * الرهبنة كانت في قلبي تماما قبل أن أدخل الدير… كنت أحب الدير والرهبنة من كل قلبي… وهذه سنوات تعد لي في الرهبنة أيضا… وأتذكر وأنا علماني -عندما كنت طالبا في الجامعة- كتبت قصائد عديدة عن الرهبنة مثل قصيدة غريب
* * غريبا عشت في الدنيا … نزيلا مثل آبائي
غريبا في أساليبي … وأفكاري وأهوائي
غريبا لم أجد سمعا … أفرغ فيه آرائي
يحار الناس ألفي … ولا يدرون ما بائي
يموج القوم في مرج … وفي صخب وضوضاء
وأقبع هنا وحدي … بقلبي الوارع النائي
غريبا لم أجد بيتا … ولا ركنا لإيوائي
تركت مفاتن الدنيا … ولم أحفل بناديها
ورحت أجر ترحالي … بعيدا عن ملاهيها
* وعن أحلام قداسة البابا في الرهبنة قال إن أحلامه لم تكن تقف عند الرهبنة فقط, حتي عندما دخل الدير لم يكن يقصد أن يقضي حياته في الدير… كان يقصد أن يقضي فترة في الدير ثم يمضي إلي حياة الوحدة… وعن هذا الحلم كتب آخر قصيدة وهو علماني قبل أن يذهب إلي الدير…
* * أنا في البيداء وحدي … ليس لي شأن بغيري
لي جحر في سقوف التل … قد أخفيت جحري
وسأمضي منه يوما … ساكنا ما لست أدري
سائحا أجتاز في الصحراء … من قفر لقفر
ليس لي دير … فكل البيد والآكام ديري
* * وهكذا -والكلام مازال لقداسة البابا- عندما زرت الدير أصبت بتعب, إذ كنت متصورا أن الدير جبل وتلال, لكنني وجدت أرضا عادية والدير مبني فيها.
* عن الحياة داخل الدير قال قداسة البابا:
* * أول فترة عشتها في الدير, كانت فترة المجمع وهي الفترة التي اكتسبت فيها فضائل المجمع… وفضائل المجمع تختلف عن فضائل الوحدة… الراهب في المجمع يأخذ فضيلة الاحتمال, أما في الوحدة لا يجد أحدا يحتمله… في المجمع يأخذ فضيلة عدم الاهتمام بالكرامة الشخصية أو بالحقوق الشخصية, أما في الوحدة فلا اهتمام بشئ… في المجمع يأخذ فضيلة التسامح أما في الوحدة فمن سيسامح وهو يعيش في وحدة… وكل الحياة التي أحياها الآن وسط الناس من جهة الاحتمال والهدوء وعدم الغضب كلها من فضائل المجمع في الرهبنة وليست من فضائل الوحدة… والراهب الذي يدخل الدير ولا يأخذ فضائل المجمع لا يعد راهبا… ولذلك بعد أن أخذت فضائل المجمع انتقلت إلي حياة الوحدة… حتي الوحدة أخذتها بالتدريج… بدأت بالوحدة داخل الدير -يعني حبيس داخل الدير- ثم أخذت مغارة علي بعد 4 كيلومترات من الدير ثم انتقلت إلي مغارة علي بعد 12 كيلومترا من الدير… وكانت تمر علي عدة أسابيع لا أري فيها وجه إنسان… وكان هنا هو حلمي وهدف قلبي منذ صباي… كنت أتمني أن أعيش هذه الوحدة.
* ما تمناه قداسة البابا -أن يعيش حياته كاملة في الوحدة- لم يتحقق… ولكن حياة الرهبنة لم تتركه ولم يتركها… عن هذه الفترة قال قداسته:
* * أخذوني بحيلة ورسموني أسقفا في وقت لم تكن فيه إيبارشية… فكنت أول أسقف يرسم علي غير إيبارشية فقلت هذه أحلامي وقد أنسيتها… وهذه أحلامي وقد ضيعتها وصرت أسقفا للتعليم… وكان أمامي أن أعيش حلمي القديم -حياة الوحدة- وأكون مقصرا في واجبي كأسقف التعليم, أو أعيش في التعليم وأنسي حياة الوحدة.. وبمعونة الرب استطعت أن أجمع بين الاثنين… كنت أسقفا للتعليم ولكنني كنت أقضي 3 أيام كل أسبوع داخل الدير… وحتي الآن مازالت محبة الدير في قلبي, حتي وأنا في طريقي للإسكندرية لابد أن أمر علي الدير آخذ بركة المكان, وأقضي ولو دقائق أتنفس فيها هواء نقيا ليس كهواء العالم.
* عن فترة الأسقفية قال قداسة البابا:
* * كنت مهتما بالمبادئ والقيم وقوانين الكنيسة… وربما لهذا تعب بعض الناس ممن حولي… فمثلا:
* * وضعت مبدأ أن من حق الشعب أن يختار راعيه… وكانت قيادات الكنيسة في هذا الوقت يرون أن من سلطة البابا أن يفعل ما شاء… وكانت نقطة خلاف.
* * أيضا وضعت مبدأ أن البطريركية لا ترث الإيبارشيات فالمطران لا يملك شيئا فلمن يورث, كل ما يملكه المطران هو ملك الإيبارشية… وهذه أيضا كانت نقطة خلاف.
* * وتعددت نقاط الخلاف وأنا أسقف, فطردوني, وعدت إلي الدير مرة ثانية وأنا سعيد… ذهبت إلي مغارتي في الجبل فوجدت الراهب أنطونيوس السرياني ينتظرني عند بابها فاحتضنته واحتضنني وصرنا شخصا واحدا, وبقيت داخل المغارة 8 أشهر وأعادني بعدها إلي القاهرة.
* من أسقف التعليم إلي بابا وبطريرك الكرازة المرقسية… نقلة في حياة الراهب الذي مازال يعيش داخله… عن هذه الفترة قال قداسته:
* * شاء الرب أن يختارني للبطريركية… يوم رسامتي أسقفا بكيت بدموع غزيرة… وأذكر أنني لم أبك في حياتي قدر ما بكيت يوم رسامتي أسقفا… لأن حياتي يومها تغيرت تماما… أما يوم رسامتي بطريركا فلم أبك… لأن كلاهما خدمة, حقيقي أنها خدمة بعيدة عن حياة الوحدة… ربما تكون الخدمة في البطريركية أكبر وأثقل, ولكنها امتداد لخدمة الأسقفية وليست تحويلا في حياتي.
* عن خدمة البابا شنودة في البطريركية متأثرا بحياة الرهبنة قال:
* * كان هدفي في البطريركية منذ أول يوم أن أضع مبادئ وقيما محددة, يلتزم بها الكل في وجودي وفيما بعدي… ففي حياتي بالبطريركية لم أستخدم سلطتي أبدا… كثير من الناس أتعبوني وبقوا في مواقعهم ومواضعهم ولم آخذ منهم أي إجراء… وهذا مما تعلمته من فضائل مجمع الرهبان أن لا أنتقم لنفسي, ولا آخذ حقي بيدي, ولابد أن أحتمل وأصمد… يختلف معي البعض في هذا, ولكني أقول لهم هذا ما تعلمناه في الرهبنة, وهذه هي الحياة المسيحية كما يجب أن تكون… أتذكر هنا عبارة كنت قلتها لو كنت ممن يستخدم السلطة ما كان هذا حالي ولكنني لا أفضل هذا ولا أحبه فمن يفعل هذا يكسب الوضع ويخسر الناس. وأنا أحب أن أعيش مع الجميع في حب… وإذا اضطررت أن أوجه أحدا إلي خطئه أنقلها له بروح الدعابة حتي لا يشعر بحرج, فأنا ممكن أنجرح, ولكني أتعب جدا إذا جرحت أحدا.