في قلب مدينة القاهرة, تقف شامخة واحدة من أقدم الجمعيات العلمية في مصر والعالم العربي, والتي عكست نضج المجتمع المدني في مصر وإدراك أبنائه لأهمية العلم كمفتاح للتقدم , هي ##الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع##, وليدة محبي مصر, حيث أنشئت لخدمة الوطن والمساهمة في تقدمه من خلال الأبحاث القيمة التي تقدمها إلي مؤسسات الدولة وصناع القرار, ومن خلال مقترحاتها البناءة ساهمت في إعادة هيكلة الاقتصاد المصري و العمل علي تطويره بالنحو الذي يحقق غاياتها وطموحاتها.
نحتفل بها معكم بعد أن أكملت عمرها المئوي. مائة عام وهي تمثل ضمير المجتمع وتعبر عن آمال وتطلعات أبنائه في المجال الاقتصادي والتشريعي, مائة عام سطرت الجمعية خلالها صفحات من تاريخ مصر السياسي والاقتصادي والتشريعي .. تاريخ كتبه مجموعة من عظماء السياسة والتشريع .
في الثامن من ابريل عام 1909م أسست الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع تحت مسمي الجمعية الخديوية وقد حمل لواء إنشائها الأمير أحمد فؤاد , واتخذ لها مقرا في بادئ الأمر في الطابق العلوي من المبني الحالي للجامعة الأمريكية بميدان التحرير.
وبعد أن تولي الأمير أحمد فؤاد حكم البلاد, نالت الجمعية اهتماما خاصا من قبل الحكومة المصرية التي شملتها برعايتها, فعرفت باسم الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع, كما أصدرت الحكومة المصرية عام 1918 قرارا باعتماد قانونها النظامي علي ان يكون غرضها دراسة مسائل الاقتصاد والتشريع والإحصاء علما وعملا, ونشر هذه الثقافة الخاصة بين اعضائها وبين الجمهور, و قد نهض بالجمعية آنذاك القاضيان ## مسيو بيولاكازيللي, ومسيو بيتر ##, وهما من رؤساء المحاكم المختلطة اللذين توليا رئاسة الجمعية بعد الملك فؤاد الأول في الفترة من 1918 إلي .1937 وتعد الجمعية أقدم جمعية علمية غير حكومية في مصر والعالم العربي وتتمتع بالحرية والاستقلال وتضاهي مثيلاتها في أوربا وأمريكا في العمل الإنمائي والثقافي.
وحرصت الجمعية علي توثيق الصلات بينها وبين الفكر العالمي في العلوم القانونية والاقتصادية, ويظهر ذلك في إصدار ##مجلة مصر المعاصرة## عام 1910م التي تعد أيضا من أقدم المجلات العلمية في مجال الاقتصاد والقانون والإحصاء وأكثرها انتشارا وحفاظا علي مواصلة الصدور, وكانت ولاتزال مرآة صادقة لحياة الجمعية وحياة المجتمع طوال السنين الماضية, وحرصت الجمعية علي أن تكون مجلتها مجالا لمختلف الآراء, وشعارها حرية الرأي وجدية البحث وصدق المنهج, وقد انتشرت في البلاد الأجنبية والجامعات الأمريكية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها من الجامعات, وساعد علي ذلك إصدارها بثلاث لغات ( العربية والإنجليزية والفرنسية ).
وبعد سنوات قليلة من بزوغها احتلت الجمعية مكانة مرموقة, و أمست مجلتها مركزا للصدارة وجهازا للأبحاث العلمية لا غني عنه, فهي لا تكاد تطرق لمشكلة إلا وتسعي لإيجاد حلول مناسبة لها , فقبل الحرب العالمية الأولي عنيت بمسائل القطن واستخداماته الصناعية وتصريف محصوله في الأسواق الخارجية, أما بعد الحرب العالمية الأولي فقد اهتمت بتعديل القانون الجنائي ونظام المحاكم المختلطة وشئون النظام الجمركي, كما حملت علي عاتقها مسئولية رفع مستويات المعيشة من خلال إجراء الأبحاث حول كيفية النهوض بالصناعة كي تتلاءم مع حاجات البلاد ومواردها, كما اهتمت بالبحث في شئون الملكية العقارية والديون الزراعية .
ثم بدأ الاهتمام بأن تكون للجمعية مكتبة خاصة بها, بلغ عدد الكتب التي احتوتها عام 1925م نحو 1500 كتاب, وسرعان ما تزايد عدد أبحاثها وكتبها حتي وصلت لنحو 4000 كتاب, ثم 7500 كتاب كلها من المراجع الثمينة للباحثين, مثل فهرس bibliographie الجامع لما كتب عن مصر الحديثة من 1798 إلي 1916م في الشئون الاقتصادية والقانونية والاجتماعية. والذي قام بنشره الأستاذ ## رينيه مونيه ## عام 1918, كما توجد حاليا بالمكتبة خدمة البوابة القانونية, والتي تقدم الدستور وأحكام محكمة النقض والاتفاقيات الدولية وكافة القوانين والتشريعات التي صدرت في مصر منذ عام 1928م وحتي اليوم.
وبعد تولي الملك فاروق الأول حكم البلاد أطلق عليها اسم الجمعية الملكية للإقتصاد السياسي والتشريع عام 1938م, ومع قيام ثورة يوليو وبناء علي تعليمات الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954 تغير اسم الجمعية إلي الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع, وتزامن مع تبديل أسمائها تغيير مقراتها, فتنقلت من الطابق العلوي من المبني الحالي للجامعة الأمريكية بالقاهرة إلي إحدي البنايات بشارع صبري أبو علم بميدان سليمان باشا قبل أن تستقر في مقرها الحالي بشارع رمسيس عام 1928م.
ولقد نهضت بفضل رئاساتها من قبل الشخصيات التي كانت علامات بارزة في مجالي الاقتصاد والتشريع. ورئيس الجمعية يعين بقرار جمهوري مدي الحياة.. وهم الدكتور عبد الحميد بدوي والدكتور عبد الحكيم الرفاعي , ثم تعاقب عليها الدكتور محمد حلمي مراد والدكتور جمال العطيفي والدكتور محمد زكي شافعي والدكتور عاطف صدقي ثم الدكتور أحمد فتحي سرور الرئيس الحالي.
كذلك زخرت الجمعية بالعديد من الشخصيات السياسية والاقتصادية المرموقة في تاريخ مصر, من أمثال حسين باشا رشدي وحافظ باشا عفيفي وعبد الخالق ثروت.
وتفاعلت الجمعية في بحوثها مع كافة التحولات الاقتصادية التي مرت بمصر, والتي كان من أهم مظاهرها تمصير الاقتصاد المصري بعد انتهاء الاحتلال واندحار النفوذ الأجنبي وما استتبعه بعد ذلك. وآمنت الجمعية خلال البحوث التي قدمتها والمحاضرات التي نظمتها بأهمية إعلاء حقوق الانسان وحكم القانون, فلا معني للاقتصاد ما لم يستطع إشباع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية, ولا معني للتشريع ما لم يستطع تنظيم هذه الحقوق .
مائة عام هي الأولي في تاريخ الجمعية ,سطرت خلالها صفحات من تاريخ مصر السياسي والاقتصادي والتشريعي, تاريخ كتبه مجموعة من عظماء السياسة والاقتصاد والتشريع من أبناء مصر في مائة عام.