نحن نؤمن بأن للملائكة والقديسين دالة عند الله ونري أنه من الحكمة أن نستغل دالتهم هذه فيما ينفعنا نحن في مسائلنا الروحية ومشاكلنا المادية والعملية في العالم الحاضر… هذا الإيمان في شفاعة الملائكة والقديسين تؤيده الكتب المقدسة واختبارات المؤمنين..
علي أن هذه العقيدة في ذاتها تتمشي مع روح المسيحية وتعاليمها, بل هي تنطوي علي مبادئ روحية عميقة, تؤكد أن العقيدة التي تضم هذه المبادئ عقيدة مسيحية من أعلي طراز..
1- إنما تنطوي أولا علي فضيلة الحب!!! والحب أعظم فضيلة مسيحية
وهي تنطوي علي الحب, لأن الشفاعة دليل الحب. فمن يشفع في غيره, لابد أنه يحب هذا الغير ويتمني له الخير.. وإذ يجد نفسه عاجزا عن تحقيق هذا الخير بنفسه, فهو لذلك يسأله من الله. والله نفسه لأنه يريدنا أن نحب بعضنا بعضا من قلب طاهر بشدة (1بط 1: 22) يريدنا أن نصلي الواحد من أجل الآخر (1تي 2: 1), فهذه الصلاة من أجل الآخرين دليل حبنا لهم واهتمامنا بأمرهم وسعينا لخيرهم, كما أنها لا تستقيم إلا إذا كانت قلوبنا صافية من نحوهم لا تحمل لهم حقدا ولا كراهية, وإلا فكيف يكون الإنسان حاقدا علي شخص وتطاوعه نفسه فيصلي من أجله طالبا له الخير. إنه لا يستطيع ذلك من نفسه إلا إذا صفح عنه من كل قلبه. لذلك عندما شفي الله أيوب البار وأراد أن يكرمه في نظر أصحابه الذين أتعبوه وأحزنوه بكلماتهم الموجعة قال الرب لأليفاز التيماني إن غضبي قد اضطرم عليك وعلي كلا صاحبيك لأنكم لم تتكلموا أمامي بحسب الحق كعبدي أيوب. والآن خذوا لكم سبعة ثيران وسبعة كباش وانطلقوا إلي عبدي أيوب, وأصعدوا محرقة عنكم وعبدي أيوب يصلي من أجلكم. فإني أرفع وجهه, لئلا أعاملكم بحسب حماقتكم لأنكم لم تتكلموا أمامي بحسب الحق كعبدي أيوب. فانطلق أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماني وصنعوا ما أمرهم الرب به, ورفع الرب وجه أيوب (أي 42: 7-9), وفي هذه الواقعة كشف الرب عن استيائه من أصدقاء أيوب الذين أساءوا إلي أيوب وأمرهم أن يذهبوا إلي أيوب بعد أن أشعرهم الرب بغضبه عليهم ورضاه عن أيوب, فمهد لهم بذلك سبيل الاتضاع لأيوب والاعتذار له, وطلبهم شفاعته, فإذا قبل أيوب اعتذارهم وصفح عنهم ثم صلي من أجلهم, قبل الرب صلاته عن أصدقائه ورضي عنهم. وهذا يدل ليس فقط علي قيمة شفاعة أيوب في أصحابه, ودالته عند الله, ولكنه يدل أيضا علي أن الرب يسر بالشفاعة لأنها برهان رضي القديسين عن الذين يشفعون فيهم, وعن حبهم لهم. والله يسر بسيادة مبدأ المحبة بين جميع الناس…
ما أجمل التعليم بالشفاعة التوسلية في كنيسة المسيح الأرثوذكسية… أنه يدعو الأحياء المجاهدين أن يصلوا من أجل الأحياء المجاهدين والراقدين, ويدعو الراقدين أيضا أن يصلوا من أجل الأحياء المجاهدين, ويدعو الملائكة أن يصلوا من أجل المؤمنين أحياء وراقدين وبعبارة أخري أنه ينادي الخليقة الناطقة أن تصلي من أجل بعضها بعضا وتطلب رحمة الله علي بعضها بعضا, ما أعظم الحب النابع من هذه العقيدة, حيث الخليقة كلها, ونداء الخليقة كلها إلي الله بالرحمة علي الجميع أحياء وراقدين!!! التعلم بالشفاعة التوسلية إذن هو التعليم بالحب لجميع الناس, والتعليم بالاهتمام بجميع الناس, والتعليم بخدمة جميع الناس والعمل لكل ما فيه الخير لجميع الناس…
2- وعقيدة الشفاعة التوسلية تنطوي أيضا علي فضيلة الاتضاع… والاتضاع معناه أن ينزل الإنسان إلي مستواه, أو بالحري أن يعرف نفسه, ويعرف قدر نفسه وقدر غيره…
ومن سيتشفع بغيره, يري نفسه خاطئا أمام الله, وأنه قد أغضبه بسلوكه, فليس إذن يستحق رضاه أو الاقتراب إليه. ولذلك فإنه يستغيث بغيره أن يعينه في طلب رحمة الله عليه, اعتقادا منه أن هذا الغير أبر منه وأقرب إلي الله منزلة, وأكثر صلاحا.. وهذا هو الاتضاع بعينه…
فما أبعد الفرق بين مسيحي يتأمل ذاته في نور الفضيلة, فينسحق قلبه بالألم علي أخطائه, ويصلي إلي الله يطلب غفرانه, وأنه يري ذاته كذلك, يسأل الله أن يقبله لا من أجل نفسه بل من أجل اسمه المبارك ومن أجل القديسين الذين أرضوه بأعمالهم الصالحة الراقدين منهم والأحياء.. أقول ما أبعد الفرق بين هذا المسيحي وبين مسيحي آخر لا يري في نفسه في حاجة إلي صلوات غيره ومحبتهم, وقد يري نفسه أفضل من غيره, وقد يمتد به غروره بنفسه إلي احتقار أعمال القديسين الكبار من أمثال سيدتنا مريم والدة الإله, والقديس مارجرجس, والقديس أبي سيفين وغيرهم, ويقول في نفسه ولماذا لا أكون أنا أقرب لله منهم!!!
ذلك مسيحي, يسلك في طريق الحق لأن يفهم نفسه جيدا.. أما هذا فمتكبر مغرور, يخدع قلبه (يع 1: 26), وهو لا يعلم أنه شقي وبائس وفقير وأعمي وعريان (رؤ 3: 17).
3- وعقيدة الشفاعة التوسلية تنطوي علي إيمان بالله… وإيمان بقداسته…
فمن يستشفع بالقديسين هو إنسان مؤمن بأن الله كلي القداسة وكلي الكمال ولا حد لطهارته وأنه الخير المحض, والقداسة الكاملة, ولذلك يري نفسه صغيرا جدا عن أن يقف أمام هذه القداسة وصغيرا جدا عن أن يرضيها لأنه بغير إيمان لا يستطيع أحد أن يرضي الله (عب 11: 6), وبدون القداسة لن يعاين أحد الرب (عب 12: 14), ولما كان الله يتطلب منا الكمال كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل (مت 5: 48), كما يتطلب منا القداسة الكاملة نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضا قديسين في كل سيرة (1بط 1: 15), لذلك فإنه يستغيث بالقديسين الذين شهد لهم جهادهم وسيرتهم أنهم أرضوا الله بأعمالهم الصالحة.
فالاستشفاع بالقديسين ينطوي إذن علي شعور عميق بقداسة الله وكماله المطلق, هذا الشعور الذي يدفع صاحبه إلي الاستغاثة بالقديسين الذين كملوا في الإيمان..
4- وعقيدة الشفاعة التوسلية تنطوي كذلك علي الإيمان بالعالم الآخر وبالحياة بعد الموت.. فمن يستشفع بالقديسين المنتقلين يؤمن بأن هؤلاء القديسين أحياء عند ربهم وأنهم مستوطنون عنده, وأنهم قائمون أمامه, ولذلك يستغيث بهم ويطلب معونتهم, ويستغل قربهم من الله ليطلبوا الرحمة من أجله..
إذن من يقصد إلي أماكن مشاهير القديسين المنتقلين الذين يصنعون الأشفية والعجائب ويخرجون الشياطين ممن تملكتهم, من أمثال السيدة العذراء والقديس برسوم العريان والقديس مارجرجس والست دميانة وغيرهم.. يري كيف يصلي بعض المؤمنين, وينادون القديس أن يظهر لهم بوضوح ويحقق أمانيهم.. وقد يظهر القديس فعلا بصورة منظورة, فيخشع المؤمنون ويفرحون ويهللون بتهاليل الفرح… ويشهد إيمان المصلين بالعالم الآخر.. وبأن القديسين الذين انتقلوا إلي العالم الآخر من مئات السنين لازالوا أحياء قائمين أمام الله, وأنهم يختلفون يترددون إلي عالمنا في مناسبات خاصة وكلما دعوناهم, ويثق أن إيمان هؤلاء المصلين بالله وبالآخرة وبالأرواح يضارع إيمان أكبر اللاهوتيين الذين يكتبون الكتب أو يصنفون المحاضرات في إثبات تلك الحقائق الإلهية المقدسة.
هذا هو الفارق الضخم بين كنيسة تنادي بشفاعة القديسين المنتقلين وبين جماعة أخري تزعم أنها مسيحية ومع ذلك تنكر شفاعة القديسين. تلك هي الكنيسة الأرثوذكسية التي تغذي بعقيدة الشفاعة التوسلية الاعتقاد بالحياة الأخري وبأن المنتقلين أحياء عند الرب وأنهم أحياء فاعلون لا خاملون, وأنهم يصلون ويصنعون خيرا بالذين يستغيثون بهم ويطلبون عونهم ومساعدتهم كما كانوا يطلبونها منهم وهم علي الأرض, وكأنها أيضا تعلم أن الحياتين الحاضرة والآخرة حياة واحدة متصلة وغير منفصلة, بينما أن الذين ينكرون شفاعة الراقدين في الأحياء المجاهدين وشفاعة الأحياء المجاهدين في الراقدين, يغذون بإنكارهم الكفر في الحياة الآخرة, ويعملون شيئا فشيئا علي قتل الإيمان بخلود الأرواح في العالم الروحي. فهم إذن يخدمون الإلحاد ولا يخدمون الإيمان, يخدمون الرذيلة ولا يخدمون الفضيلة..
كل تلك المعاني وغيرها, معان روحية وسامية تنطوي عليها عقيدة الشفاعة التوسلية, وهي تدل علي أنها عقيدة مسيحية من أسمي طراز لأنها تتمشي مع مبادئ المسيحية اللاهوتية وفضائلها الروحانية.. ليست إذن عقيدة الشفاعة التوسلية عقيدة جافة, نقول بها لأنها بند من بنود إيماننا التي تميزنا عن غيرنا ممن يختلفون عنا فيها وفي غيرها.. كلا.. إنها عقيدة روحانية وتنطوي علي فضائل روحية.. وهي ليست عقيدة نظرية أو جدلية.. ولكنها بالأحري عقيدة عملية, تثير فينا وفي أرواحنا معاني روحية وتحرك مشاعرنا بإحساسات روحية سامية.. وتنادينا بأن نستغل الملائكة والقديسين.. فننتفع بصلواتهم فعلا, ونستغيث بهم لمعونتنا وخدمتنا في كل ما نعجز عن فعله بذواتنا, وهم كائنات خيرة تندفع نحو الخير بوازع من فضيلتها ومحبتها للخير الذي تمرست عليه. ولن تتأخر عن إغاثتنا بوسائلها إمكانياتها وهي إمكانيات كثيرة وغنية ومتنوعة. واستغاثتنا بالقديسين لا تتعارض مع عبادتنا لله. علي العكس إنها تتمشي معها, لأن القديسين يعملون بالقوة التي أودعها الله فيهم وبالفضائل التي يتطلبها الله منهم. إن جهادهم معنا يسر قلب الله ويبهجه لأن الله خلقهم كما خلقنا للعمل, ويسره أي يري التعاون بيننا وبينهم.