أمل دنقل شاعر من الشعراء أصحاب البصمة الواضحة في شعرنا المصري الحديث,ولعل سبب نجاحه الشعري هو قدرته -كأي شاعر موهوب- علي الاستفاده من التراث الشعري وفي حركة شعر التفعيلة,فقد بزغ نجمه بعد أن استقرت هذه الحركة وأصبحت تاريخيا وبشهادة كبار النقاد وإقبال قراء الشعر الذين تابعوها,من هنا كانت الحماسة في الكتابة عنها من هؤلاء النقاد الكبار الذين توجوها نمطا من الشعر جديدا يلائم إيقاع الحياة المعاصرة علي اعتبار أنها ”حلقة” تضاف إلي حلقات الشعر العربي ابتداء من العصر الجاهلي.
لقد قرأ أمل دنقل الكتب التي جمعتها مكتبة والده,واستفاد من الكتب المقدسة ”القرآن والإنجيل” واستوعب التراث الأدبي خاصة شعر الفجول من الشعراء فعرف روح الإيقاع في الشعر العربي,نري ذلك في أسلوبه نصاعة وترابطا بين الجمل وبساطة في التعبير الذي يحمل روح اللغة العربية بعيدا عن الرطانة التي ينكرها الذوق العربي الحساس.
اعتمد علي التضمين من القرآن.نري ذلك في مثل قوله:
”والتين والزيتون وهذا البلد المحزون/لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين/رأيت في هتاف شعبي الجريح/رأيت خلف الصورة/وجهك يا منصورة…”
لقد ابتدأ أمل دنقل كتابته الشعرية داخل النظام العمودي فأدرك كيميائية لغته القومية وحين خرج إلي الشكل التفعيلي اتجه إلي تحديث القصيدة بكثير من (التيمات) التي عرفت عن الشعر الأوربي والتي غزت شعرنا الحديث,كما اعتمد علي التاريخ الفرعوني والعربي والإسلامي استفاد -كما سبق القول- تماسك الجملة وترجمة إيقاعها المتناسق مع تجربة القصيدة وهو إلي جانب ذلك يشير في مجال الإشارة إلي إيقاع لغته الخاصة وإلي الحساسية الشديدة بتماسك الجملة الشعرية علي ألسنة شعراء الصعيد ذلك أن القبائل الصعيدية تنحدر من قبائل عربية هاجرت إلي مصر,ولعلنا نحس بهذا التماسك في إيقاعه وفي رجوعه عن طريق (التضمين) إلي التراث الشعري…نري ذلك في قوله:
(تكلمي أيتها النبية المقدسة/تكلمي فها أنا علي التراب سائل دمي/وهو ظمي…طلب المزيدا/أسائل الصمت الذي يخنقني/ما للجمال مشبها وئيدا/أجندلا يحملني أم حديدا…)
ونراه كمل رجع إلي القرآن يرجع إلي الإنجيل الذي تترد فيه عبارة (ورأي الله ذلك أنه حسن) ويتابع أمل نهاية أغلب الإصحاحات في قصيدته فيقول (ورأي الرب ذلك أنه غير حسن).
ومن الصور المأخوذة من الإنجيل نري في قصيدة (العشاء الأخير) قوله:
(وتنبأت بما كان وما سوف يكون/فكسرت الخبز حين امتلأت كأسي,من الخمر القديمة…قلت
يا إخوة هذا جسدي فالتهموه/ودمي هذا حلال فأجرعوه…).
وهو يذكر أسماء تاريخية من التراث مثل المتنبي وأبي موسي الأشعري,وأبي نواس,كما يذكر أسماء فرعونية (ساعة الحائط,في معبد (هابو) انتهت دقاتها/أنا أوزوريس).
قد استطاع أمل دنقل حين جانب الأسماء التراثية الأدبية الأجنبية أن يقع علي الجانب الصحيح من وسائل تعبيره من هنا كان اعتماده علي الأسماء العربية التراثية أو أسماء عربية تراثية شعبية فتحقق له الوصول إلي القراءة الشئ الذي لم يفعله الشاعر العراقي المعروف بدر شاكر السياب الذي بالغ في اعتماده بكثرة ذكر أسماء الأساطير الإغريقية التي لا يعرفها إلا القارئ المتخصص في أدب الإغريق وهو اتجاه اقتبسه من الشاعر الإنجليزي (إليوت) فاستعمل البديل من الأسماء المعروفة لدي القارئ العربي العادي مثل الشاطر حسن وشهريار وشهرزاد والسندباد مثلا فالأسماء المأخوذة من التراث الشعبي العربي استقرت في وجداننا منذ أن سمعناها في طفولتنا وصبانا,من هنا كانت أقرب إلي نفوس المتلقين العرب حينما يستخدمها الشاعر كرمز أو قناع.
كان شعر أمل دنقل في أول أمره رومانسيا وإذا به ينتقل نقله عميقة الزوايا ذات إطلالة إنسانية فأصبح شعرا واقعيا يلتقط بحس رهيف ”فتات الحياة” حسب تعبير د.محمد مندور,من هنا كانت البساطة سر عبقريته وتحريه الواقعية ذات البعد الإنساني ساعدته علي هذه البساطة القريبة إلي نفس المتلقي فلا إبهاز,ولا حذلقة ولا تهويمات شكلانية هي فقاقيع لا تلبث أن تنفجر مخلفة وراءها خواء فارغا…يقول أمل دنقل:
(عينا القط تنكمشان/فيدق الجرس الخامسة/صباحا/أتحسس ذقني النابتة/الطافحة بثورا وجراحا/أتسمع خطو الجاره فوق السقف/وهي تعد لساكني غرفتها,الحمام اليومي/دفء الأغطية/خرير الصنبور/ خشخشة المذياع/عذوبة جسدي المبهور/والدق المتردد فوقي ليس يكف/عكني في دقة بائعة الألبان/تتوقف في لكني فرشاة الأسنان).
هذا نمط في الشعر جديد يتناول بعض مفردات الحياة اليومية في دعة ورقة وبساطة وألفة فيدخل القلب بلا استئذان!
إن الشاعر في رؤيته الثاقبة إلي نهر الحدث اليومي البسيط ينسج منه هذا الشعر الرائق عبر رؤية معايشة لمفرداته التي يعرفها كل الناس…إنه يتناول الحدث اليومي المألوف في براعة وقدرة فائقة.
ونختم مقالنا الصغير بحديثه الشعري الأخاذ عن عيني حبيبته:
(عيناك لحظتا شروق/أرشف قهوتي الصباحية من بنهما المحروق/وأقرأ الطالع/وفي سكوت المغرب الوادع/عيناك يا حبيبتي شجرتا برقوق/تجلس في ظلهما الشمس ترفو ثوبها المفتوق عن فخذها الناصع…).