لقب جديد اكتسبه الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881-1973) أشهر فناني القرن العشرين وهو أغلي فنان في العالم بعد أن حققت إحدي لوحاته عارية وأوراق خضراء وتمثال نصفي مؤخرا رقما قياسيا جديدا حيث بيعت بـ106.5 ملايين دولار في صالة مزاد كريستي بنيويورك, والتي نجحت في بيع ست لوحات من أعمال بيكاسو تنتمي إلي نفس الفترة التي أنجز فيها مجموعة كبيرة بدءا من عام 1932.
لم يأت هذا اللقب من فراغ, فقد حققت إبداعات بيكاسو أكبر نسبة مبيعات في العالم حتي الآن.. ففي عام 2006 بيعت لوحة دورامار مع القطة بمبلغ 95.2 ملايين دولار, وقبلها بعامين (2004) بيعت لوحة الصبي والغليون بمبلغ 104.2 ملايين دولار وهي تنتمي للمرحلة الوردية التي غلبت علي موضوعاتها الرومانسية عام 1905, وفي عام 2000 بيعت لوحة امرأة مكتوفة اليدين بمبلغ 55.6 ملايين دولار وهي تنتمي إلي المرحلة الزرقاء (تعبيرا عن الحزن والألم)… التي عالج فيها مشاكل الفقراء في فترات فنه الأولي مع أحزان بيكاسو.
وبهذا السعر الخيالي حطمت لوحة عارية وأوراق خضراء وتمثال نصفي الرقم القياسي الذي سجله التمثال البرونزي الرجل السائر للنحات السويسري ألبرتو جياكوميتي في صالة سوثبي للمزادات بلندن في فبراير 2010, حيث بيع بمبلغ 104.3 ملايين دولار.
ومما يذكر أن هذه اللوحة هي ضمن مجموعة عالمية اقتناها عاشقا الفن الراحلان فرانسيس وسيدني برودي من لوس أنجلوس, واللذان اشتراها عام 1951 من وكيل أعمال بيكاسو… ولم تعرض غير مرة واحدة فقط عام 1962 بمناسبة عيد ميلاد بيكاسو الثمانين… وقبل وفاتهما باعاها لصالة كريستي للمزادات.
وتعد لوحة عارية وأوراق خضراء من سلسلة لوحات رسمها بيكاسو في أوائل الثلاثينيات لحبيبته ماري تيريز والتر… ورسمت اللوحة عام 1932 بأسلوب غير معتاد لدي بيكاسو من حيث استخدامه لألوان وخطوط حادة نابضة بالحياة في محاكاة لأسلوب هنري ماتيس صديق بيكاسو ومنافسه… حتي أن النقاد والمسئولين في صالة مزاد كريستي يقولون عنها إنها من أهم وأروع إبداعات بيكاسو لأنها جمعت بين خصائص مراحله الفنية من ناحية الخطوط والمساحات اللونية والتكوين المحكم.
ولد بيكاسو في مدينة مالقة بإسبانيا… ومنذ مولده أطلقت عليه عدة أسماء منها بابلو دييجو وفرانشيسكو باولا ولم يبق من هذه الأسماء سوي اسم بابلو أما اسم بيكاسو فأخذه من اسم والدته ماريا بيكاسو, وكان والده يدعي خوزيه رويز بلاسكو وكان يعمل أستاذا للرسم والتصوير.
ظهر نبوغ بيكاسو في سن مبكرة وبدأ يرسم تحت إشراف أبيه, وفي سن الثالثة عشر قام بتكملة رسوم والده الناقصة بعدها مباشرة التحق بمعهد الفنون الجميلة واجتاز الامتحان الصعب الذي عقد للمتقدمين للالتحاق بالمعهد… وأكمل بذلك دراسته بأكاديمية سان فرناندو للفنون, ثم قرر, والده إرساله إلي لندن ليتعلم الفن من الفنانين الإنجليز… ولكن في طريقه إلي لندن توقف في باريس عام 1900 ليستقر بها نهائيا, وليبدأ رحلته الفنية… أنجز فيها المرحلتين الفنيتين الزرقاء حتي سنة 1904 والوردية التي بدأت عام 1905 ولم تستمر إلا عامين.
وفي الفترة من 1907 وحتي 1909 كانت ولادة التكعيبية مع بداية مرحلة جديدة في تاريخ الفن المعاصر حينما اشترك بيكاسو مع جورج باراك في نفس هذا الاتجاه… وقد استلهما تلك التكعيبية من دراسة لأعمال سيزان إلي جانب دراسة الفن البدائي والنحت الإفريقي وذلك أثناء رحلته إلي أواسط أفريقيا مستلهما من الأقنعة الخشبية الملونة أصول فن بدائي بسيط التكوين, واستجابت حواسه إلي تلك الأقنعة, حتي أصبح الفن التكعيبي والفن الزنجي في لوحات بيكاسو وحدة متماسكة… وأولي لوحاته في تلك الفترة هي لوحة فتيات أفنيون عام .1907
بالرغم من ثورة النقاد علي الأسلوب التكعيبي لمعالجته للجسم البشري بما يشوه الإنسان وإتهامهم له بأنه سلب الفن جانبه الإنساني… إلا أن هذا النوع من الفن استهوي مشاعر بيكاسو, كما كان لطبيعة بلاده إسبانيا ذات التراكيب الهندسية حادة الخطوط أثر علي فنه… ومن خلال الفن الزنجي ظل يعالج فضائح بشرية بأسلوب تهكمي ساخر, وأراد أن يعبر برؤيته الخاصة عن استقلاله وتحرره من النظرة الواقعية, يتجاوز فيها كل ما هو مألوف.
ولأن الفنان كان يؤمن بأن اللون قادر علي تغيير نفسية الإنسان وخلق حياة أفضل له, تميزت المرحلة الوردية باستخدام اللون الوردي في أعماله التي غلبت علي موضوعاتها الرومانسية, والألوان الأكثر حرارة وزهوا, وتراجعت مساحات الحزن والكآبة التي صبغت أعماله في المرحلة الزرقاء, لتحل محلها البهجة والتفاؤل… تعبر عن الحياة الجديدة التي تعيشها باريس في مطلع القرن العشرين والتأثير الذي أحدثته في فنه.
ولأن بيكاسو كان دائما ينادي بالتغيير ومسايرة الزمن بين الحين والآخر, فقد انتقل في عام 1932 إلي المرحلة التي تدعي الوجوه المزدوجة وهي محاولة تقديم الوجه الإنساني في أكثر من وضع في وقت واحد… هذه الوجوه ذات قوة تعبيرية هائلة مثل وجه المرأة الباكية التي أنجزها عام 1938 وفيها لم يكن يصور الوجه بل حالة نفسية… وفي أواخر الثلاثينيات ظهرت تعبيرية بيكاسو عارمة في لوحته الضخمة جيرنيكا وهو اسم مدينة إسبانية دمرتها ألمانيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية, وصور فيها آثار الدمار والخراب معبرا بخطوط همجية متوحشة عن قسوة ووحشية الحرب… ورغم كبر حجمها (3.5 أمتار * 7.8 أمتار) إلا أن بيكاسو أنهاها في شهرين, وهي موجودة الآن في مركز رينا صوفيا بمتحف مدريد للقرن العشرين.
ولا عجب, فقد توفرت في إبداعات بيكاسو كل العوامل التي تجذب محبي الفن الرفيع… إضافة إلي تقدير تلك الأعمال لقيمتها الفنية والتاريخية, وأيضا -بلا شك- هناك طفرة في سوق الفن من الناحية الاقتصادية والمادية.