وها نحن اليوم نجتمع أمام الله في يوم الشعانين, فاتحة الأسبوع المقدس, أسبوع الفداء والقيامة المجيدة, نضع سر قسوة الإنسان ومقدرته علي فقدان إنسانيته أمام سر الله ومقدرته علي التخلي عن لاهوته.
ويكتب لنا القديس بولس في رسالته إلي أهل فيلبي: ”إن المسيح مع أنه في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد…”, تخلي هو عن لاهوته, ولكن ليفدي الإنسان, وليصالحه مع الله ومع أخيه الإنسان. ونحن في أحد الشعانين مدعوين نرافق يسوع في بداية آلامه.
لقد اهتم الإنجيليون الأربعة بذكر هذه الحادثة التاريخية, لأنهم رأوا فيها إقرارا من الشعب, ومصادقة من المسيح نفسه, علي أنه هو ”مسيا” المنتظر, ملك اليهود. وقد كتب عنها البشيريون, كل بحسب وجهة نظره. فاتجه نظر متي بنوع خاص إلي هتاف الأولاد في الهيكل, وإلي مجيء العمي والعرج إلي المسيح لكي ينالوا الشفاء (مت 21: 14 و 15). والتفت مرقس إلي تسجيل نظرات المسيح ”إلي كل شيء حوله في الهيكل” (مر 11: 11). وأرانا يوحنا ذلك الجمع الحافل الذي خرج من أورشليم للقاء المسيح, وهم يحملون سعف النخيل (يو 12: 12 و 13).
سبق للمسيح فكبح جماح الذين أرادوا, من مناسبات سابقة, أن يجعلوه ملكا. لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. فهو لا يقبل تاجا منفصلا عن الصليب.
يا له من تناقض, ملك آت علي حيوان متواضع كالحمار, ملك تجرد من كل الممتلكات حتي من المركبة المتواضعة لأنها ليست له ! إنه ملك السلام, ملك وديع لا يقتحم, ولا يعرف للإجبار معني. فالملوك عادة يركبون الأحصنة الأصيلة والمراكب الفخمة, يدخلون بقوة الفاتحين يحطمون كل شيء علي طريقهم
أما ملكنا اليوم ملك أورشليم هو ماسيا العادل, النبي المرتقب الذي طالما انتظره الشعب المتحدر من سلالة إبراهيم وأعلن عنه أنبياء العهد القديم. ها هو ابن داود يدخل إلي عاصمته مع إطلالة عيد الفصح وكأنه في يوم ظفر, هذه العاصمة التي اقتحمها داود بعد أن استولي علي قلعة صهيون (1أخبار4:11) ودعيت مدينة السلام والتي سيبكي عليها يسوع ما أن يصل إلي أسوارها ويتنهد متمتما ” يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين” ! ها هو الذبيحة الجديدة أت إلي أورشليم التي جهلت أو تجاهلت آخر فرصة سلام قدمت إليها.
ودنت بداية الأسبوع الأخير الذي لم ينته إلي اليوم ـ لأن السبت الجديد لم يكن قد بزغ فجره بعد. ولم يكن مجئ يسوع إلي أورشليم في هذه المرة كما كان في غيرها من السنين. غريبا هائما ضائـعا بين الغرباء الزائرين في أورشليم, البيضاء كالقبور المكلسة تحت قباب الهيكل المتعالية زهوا وغرورا. فقد جاء يسوع في هذه المرة الأخيرة يصحبه أصدقاؤه من العامة والفلاحين, والنساء اللواتي كن سيبكينه بعد قليل, والأثني عشر الذين كانوا علي أهبة الهرب والاختفاء عن العيون, والجليليين الذين تبعوه تذكارا لمعجزة قديمة اجرحها أمامهم. راجين أن ينظروا منه آية جديدة. لم يكن وحده في هذه الزيارة كما كان في غيرها. فإن حراس بيلاطس كانوا يحيطون به, ولم يأت خلسة من غير أن يعرف به أحد, فإن أبواق القيامة كانت تتقدمه. لأن المدينة ذاتها المحكومة من حديد الرومانيين, وذهب التجار, وكتب الفريسيين, لم تخل من بعض العيون الشاخصة إلي جبل الزيتون, والقلوب الخافقة بمحبة المعلم.
ولم يأت ماشيا في هذه المرة إلي المدينة التي كان حقها أن تكون قاعدة لمملكته, فكانت قبرا له. وعندما جاءوا إلي بيت فاجي, أرسل تلميذين من تلاميذه ليحضرا له جحشا .
إن يسـوع طلب جحشا لم يركبه أحد قبله, جحشا كجحاش الفقراء التي لم تتطبع بعد, لأن الحيوان الذي اختاره فـي ذلك اليوم لم يكن رمزا لوداعة راكبه , فحسب, بل لكي يعتقنا من البهيمية التي فينا ومن حولنا.
وأخيـرا وصل الجيش المسيحي الأول إلي أبواب أورشليم وهو يصرخ بصوت واحد قائلا ” هـوشعنا لابن داود ! مبارك الآتي باسم الرب ” (يوحنا13:12) سلاما في السماء ومجدا في العلاء ! فبلغت أصواتهم مسامع الفريسيين فجاءوا بعجرفتهم وقساوتهم ينظرون ما خبر تلك الأصوات المشاغبة. لأن تلك الأصوات شككت آذان أولئك العلماء وقلقت لسماعها قلوبهم المرتابة, فتقدم بعض منهم مرتدين بجببهم العريضة وقالوا ليسوع من بين الجموع ” يا معلـم, انتهر تلاميذك, فأجاب وقال لهم: أقول لكم, إنه إن سكت هؤلاء لنطقت الحجارة” (لوقا40:19).
إن الحجارة الصامتة الجامدة, التي كتب عنها القديس يوحنا ” إن الله كان قادرا أن يقيم منها أولادا لإبراهيم ” الحجارة الحارة التي لم يشأ يسوع أن يحولها إلي أرغفة من الخبز عندما سأله الشيطان ذلك في البرية (عند التجربة) الحجارة الشريرة التي حملها الشعب مرتين من الشوارع ليرجموه بها, الحجارة القاسية التي كانت في أورشليم إنما كانت أقل قساوة وأقل تحجرا وفقدا للإحساس من نفوس أولئك الفريسيين.
وقـد ثبت يسوع بهذا الجواب حقه في أن يدعي ” المسيح ”. فكان ذلك بمثابة إعلان الحرب. فإن الملك الجديد في الدقيقة الأولي من دخوله إلي مدينته قدم إشارة الحرب.
أحد الشعانين هو أحد الفرح الذي يسبق المأساة ” فأقيموا هذا العيد وابتهجوا ” إنه صورة مسبقة لفرح القيامة الحقيقي, حيث يدخل الرب إلي أورشليم السماوية ” استنيري يا أورشليم الجديدة لأن مجد الرب قد أشرق عليك ”.
يسوع اليوم يدشن مملكة السلام ,ويتكلم بالسلام للأمـم ويكون سلطانه من البحـر إلي البحر ومن النهر إلـي أقاصي الأرض ” (زكريا10:9) أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب.