ورحل المؤرخ الجليل والباحث المطلع..الفاحص المتفحص..الحافظ علي تراثها القابض علي أحجارها وشخصياتها وأحداثها…أنور الصناديقي.
من مواليد مدينة ملوي بمحافظة المنيا في سبتمبر1918.وهو ولد وحيد وسط إخوته البنات,أشاع مولده فرحة في قلوب عائلته وقريته فمولده جاء مواكبا لأول أيام عيد الأضحي في ذلك الوقت اعتبرت عائلته ذلك بمثابة هدية من السماء لتك الأسرة المصرية الوديعة المتدينة المسالمة المحبة لأعمال البر والإحسان..وولده من كبار تجار الغلال في الصعيد.
صب الوالد جل اهتمامه ورعايته وإمكاناته المادية لينشئ الصناديقي الصغير تنشئة صالحة ليكون ذا نفع وفائدة لعائلته وأهل بلده ولمصر كلها.تعلم القراءة في صغره وانكب علي قراءة كل شئ تقع عليه عيناه حتي بات يقضي يومه في القراءة.وأتاح الوالد كل المجلات والصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت ليقرأ الصناديقي الصغير ويلتهما التهاما أرسله والده للتعليم في مدرسة فؤاد الثانوية بالقاهرة.ولم يكتف بإنهاء دراسته الإلزامية لكنه دأب علي دراسة المجالات المختلفة وكان ذلك إبان الحرب العالمية الثانية راسل العديد من الجامعات والمعاهد الدولية وتعلم بنظام الدراسة عن بعد لمدة خمس سنوات وقت كان فيه هذا النوع من الدراسة نادرا جدا علي مستوي العالم وخاصة في مصر.ففي كليةبينتبشفيلد في إنجلترا درس الإنجليزية واللاتينية والرياضيات والتاريخ الأوربي.وفي المعهد البريطاني للهندسة درسالصناديقيهندسة المباني,وفي هذا الصدد يقول الصناديقي:درست هندسة المباني لأجهز نفسي للكتابة عن بلدي فمن ضمن كتابات المؤرخ أن يكتب عن المباني فكان لزاما علي أن أدرس هندسة المباني.
وفي عام1932 درس الصناديقي لغة جديدة كان يطلق عليها في ذلك الوقتأسبرانتونسبة لمخترعها دكتورسبرانتووظل الصناديقي يداوم علي دراستها عامين كاملين لكنه توقف عن دارستها بعد توقف دكتورسبرانتوالذي رأي أنها لم تحقق أحلامه في جمع العالم حول لغة واحدة.
الصناديقي نقل أيضا من فنون الصحافة والأدب حيث درس الصحافة وفن القصة بمصر وإنجلترا كذلك درس الأدب والشعر واتجه علي المستوي الشخصي لتثقيف نفسه بقراءة واقتناء أمهات الكتب والمراجع والدوريات في مختلف العلوم والفنون…ويقول الصناديقي عن هذه السنوات:بعد كل هذه الأعوام من الدراسة المتعمقة في مختلف المجالات عدت إلي الصعيد لأتولي إدارة العديد من الندوات وإلقاء المحاضرات وتحمل مسئولية التأريخ والبحث المستفيض في جذور بلدي العريق مصر.
الصناديقي واسمه الحقيقيأحمد أنور أحمد الصناديقي كان زميل دراسة في مدرسة واحدة مع الزعيم جمال عبد الناصر وله معه ذكريات وطرائف فيحكي قائلا:كان جمال مشغوفا بإلقاء الخطب في المدرسة.وحدث في ذات مرة كان جمال يلقي خطابا مستندا بظهره إلي الباب فقمت أنا وزملائي بفتح الباب فجأة وبقوة فتسببنا في إصابته بجرح.
نعود للصناديقي الباحث والأديب والمؤرخ فنجده مشاركا أصيلا بالكتابة الرصينة الواعية في صحف الأهرام والسياسة ومنبر الشرق والمصباح واللواء وغيرها موقعا مقالاته باسمابن الصعيد.
ونتيجة لكتاباته الكثيفة أثناء الحرب العالمية الثانية وما حوته مقالاته من تحليلات دقيقة اتصل به القائمون علي السفارة الإيطالية بالقاهرة وأرسلوا له كل الكتب والمنشورات التي تخص الحرب.ويذكر الصناديقي في هذا الصدد أنه كتب مقالا بعنوان:لماذا أرشح هزيمة هتلر؟ثم تلاه بمقال آخر عنوانهبدأ هزيمة هتلرفراسله مؤلف إنجليزي استفاد من مقالاته وآرائه وألف كتابا بعنوانهتلر قال لي.
أسس الصناديقي أول ناد للمراسلات أسماهنادي المراسلات الإسلامي الدوليواختار من كل عاصمة صديق,فكان ناديه بمثابة مدرسة تاريخ وآثار لكل دولة ومن خلاله عرف الصناديقي صحافة هذه البلاد.
كما حاول إصدار جريدة اسمهاالقيادةلكنها لم تر النور رغم قيامه بكل إجراءات الصور.ويكاد يكون السبب هو سؤال الجهات الرسمية له عن سبب اختياره للاسم فأجابهم اخترت اسم القيادة لكي نقود ولا نقاد فرفضوا صدورها!!
وشارك الصناديقي في العديد من الصالونات الأدبية خاصة صالونمي زيادةودارت مناظرة بينه وبين الدكتور أحمد الشرباطي كان عنوانهاللتدخين فوائد وكانإبراهيم دسوقي أباظةوزير المواصلات في ذلك الوقت هو رئيس جمعية مكافحة التدخين.
وفي المناظرة عارض الصناديقي الشرباصي وتضامن معه أربعة من أساتذة جامعة القاهرة ليفاجئهم أباظة بقوله:
إن أنور الصناديقي بدأ المناظرة والشرباصي ضده والآن أحمد الشرباصي يؤيد كلام الصناديقي!!
وتعد رابطة الأدباء المصريين من بنات أفكار الصناديقي خرجت من رحم فكره المتقد وكان مقرها في البداية بمدينة ملوي بالمنيا وكان هو يرأسها ولما توسعت أنشأ لها فرع في القاهرة وكان إبراهيم ناجي رئيسها ومع مرور الأيام أصبح الفرع هو المركز الرئيسي.
وللصناديقي العديد من المؤلفات والأبحاث إلي جانب مقالاته وكتبه التي لا تعد ولا تحصي والمخطوطات التي اقتناها عبر مسيرة عمره تعد ثروة قومية لا تقدر بمال ولا نعرف حتي الآن إلي من ستؤول وإلي أين ستذهب بعد رحيله منذ أسابيع قليلة في صمت وبعيد عن أي ضجيج إعلامي,وهوالذي ملأ مصر ضجيجا وصخبا حبا في تراثها وعشقا في تاريخها المجيد.وقد زارته قبل وفاته بفترة بسيطة السفيرةميرفت النداويالتي انبهرت بكتبه ومؤلفاته وأبحاثه ووعدته بنشر وطباعة هذه المؤلفات القيمة,ونذكر من مؤلفات الصناديقيكتاب الأخلاق عام1928,و”قصة ناهد”,”تاريخ المنيا عبر العصور”,”مع التموجات المدينة”,”ألوان من الأدب والفن” وغيرها…
ومن أجمل الذكريات التي ظل يحملها الصناديقي في قلبه وعقله حتي اللحظات الأخيرة من عمره زيارة النحاس باشا لبيته في ملوي بصحبة عبد الحكيم بك عبد الفتاح عضو مجلس الشيوخ وقد قام الصناديقي بفرش الشارع كله حتي مدخل البيت بالسجاد الأحمر تقديرا لمكانة النحاس,كما زاره أيضا مكرم باشا عبيد.وكل من زار الصناديقي واقترب إليه يؤكد أنه من القائل الذين يؤرخون بعلم ومنهجية ويكتبون في التاريخ بعشق لا مثيل له.
ولم يضع الصناديقي وقته في اللهو والعبث وهو ابن التاجر الكبير ولعل حكمته التي آمن بها تؤكد لنا ذلك فهو يؤمن بحكمة رائعة تقولالوقت هو الحياة.
فأفني الصناديقي أوقات عمره في حب مصر.فهل تتذكره مصر مع قرب حلول ذكري الأربعين لرحيله!!
هل ستبحث وزارة الثقافة عن مكتبته ومؤلفاته ومخطوطاته وتعيد طبع ما تراه!!
هل ستتحرك رابطة الأدباء المصرية لتفعل شيئا مع المنشئ والمؤسس والراعي.