كالمعتاد وصلت صباحا إلي مقر الجريدة,وما أن وطأت قدماي المكان المخصص للاستقبال إلا و وقعت عيني علي وجهها الحزين.كانت في انتظاري,عرفتها دون أن تتكلم,علي وجهها بدت علامات اليتم والحرمان لا تحتاج إلي دلائل أو إثباتات,كللت الهالات السوداء عينيها رغم أنها لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها,الابتسامة لا تعرف إلي ثغرها سبيلا,عينان مرتخيتان لم أعرف إن كان ذلك من انكسار النفس تحت ذل السؤال أم من الحزن الرهيب علي ما وصل إليها حالها,تجلس إلي جوارها امرأة جاوزت الخمسين من عمرها.لم أسبق الأحداث لأتكلم إليهما فقد يخطئ حدسي ولا تكون هي ذات الفتاة التي اتصلت بي قبل يومين لتطلب تحديد موعد لتروي لي مشكلتها.
توجهت إلي مكتبي في صمت…صدق حدسي وكانت هي…استمعت إليها دون أن أنطق ببنت شفة…تفاصيل مأساتها لجمت لساني…مجبرة علي الصمت واصلت الإنصات تسري في شراييني أحزان بثتها الصبية إلي دمائي وهي ترويها بمنتهي المرارة قائلة:
بدأت ماسأتي منذ سبع سنوت عندما مرضت أمي بالسرطان وهي لم تزل حبلي بأختي الصغيرة 6سنوات وكان عمرها آنذاك38 سنة,كانت والدتي تعمل كاتبة (علي آلة كاتبة)في إحدي الجهات الحكومية,ومرتبها800جنيه نعيش منه جميعا مستورين فنحن أسرة مكونة من أب وأم وثلاث بنات أنا أكبرهن والوسطي حاليا 15 سنة والصغري حاليا 6سنوات,والدي يعمل محاسبا بالقطاع الخاص وغير مؤمن عليه,نهش المرض جسدها كانت تخبو أمامنا يوما بعد يوم ونحن عاجزون أن نمنع الموت من الاقتراب إلي كل جميل في حياتنا,ثلاث سنوات كان عمر معركتنا مع المرض الخبيث…أنفقنا فيها كل ما نملك علي العلاج الكيماوي وتفرغت لرعاية أمي ولم أتعد الحادية عشرة من عمري,كنت بمثابة الأم لأختي الصغري التي جاءت وسط أجواء لا ترحب أبدا بمولود جديد…كثيرا ما توجهت أمي إلي الله بالدعاء ليرحمها فتنتظر مع كل غمضة عين أن يلبي طلبها رحمة بنا قبل أن تكون رحمة بها إلي أن أغمضت حبيبتي عينيها بلا عودة كما طلبت إلي الله.
وبدأت رحلة الصدمات,فبعد وفاتها حصلنا علي معاش شهري قدره500 جنيه أبي طرف فيه لأنه غير مؤمن عليه في عمله,ثم حصلنا علي مكافأة 15ألف جنيه من عملها,وحينها ثار أخواها مطالبين بحقهما في الميراث لأننا بنات وعندما رفض والدي كانت قطيعة تامة بيننا وبينهما إلي اليوم,ثم مرض والدي مرضا شديدا أقعده عن العمل وصرنا نحيا بمعاش أمي فقط,مرت الأيام ثقيلة بلا أم.أضافت لعمري عشرات السنين التي مللت أن أحصيها,إلي أن وصلت أختي الوسطي للصف الأول الثانوي والصغري للصف الأول الابتدائي وانهيت أنا الثانوية العامة بمجموع75%,وكانت المرة الأولي التي يقرع الفرح لي بابا بعد رحيل أمي,ولم تكتمل فرحتي أيضا.وما الغريب في ذلك؟هكذا تعودت في حياتي,اصطحبني أبي خارج مكتب التنسيق ليخبرني أنه لا يستطيع مواصلة تعليمي,ولابد أن أقدم تضحية من أجل الأختين الأصغر,قهرت أحلامي وقبلت التضحية في طريق يبدو أنه لن يتنهي.
بعد أيام قليلة ساءت أحوال والدي الصحية واكتشفنا أنه مصاب بتليف في النخاع الشوكي,ثم أمضي أياما في أحد المستشفيات وذهب كما ذهبت أمي إلي حيث لا عودة,وبقيت أصارع أقداري لا أعلم ماذا يخبئه الزمن لي,احتضنت إخوتي وتركنا منزلنا الذي قد تراكم إيجاره علينا خلال خمس سنوات مضت ليصل إلي ستة آلاف جنيه,وذهبنا للعيش مع جدي90عاما-مقعد-وجدتي 80عاما وأصبحنا في قبضة الأعمام الذين يرفضون تولي الوصاية علينا واستلام معاش أمي لنحيا كسائر البشر,فتوقف المعاش,وتوقف معاش جدي بعد وفاة والدي لأنه كان يتقاضاه عنه,ولا يستطيع جدي الذهاب للحصول علي المعاش,ولم نفلح في استقدام المسئول من المحكمة لإتمام التنازل عن الوصاية,وسقطنا جميعا في بئر النسيان لا أحد يرعانا ولا أحد يهتم بنا,القوت اليومي بالكاد يكفينا…زدنا حرمانا فوق حرماننا بعد أن بات أعمامي يلقون الفتات لنا ويرحلون أشعر في كل لحظة بقيد يلتف حولي كفي يكبلني أقف مغلولة اليدين وأنا أري الحرمان في أعين أخوتي.
أقام صاحب العقار دعوي طرد موعد نظرها نوفمبر الحالي,المسئول عني فعليا جارتي التي أتت بي إلي جريدتكم ربما أجد حلا لمأساتي,أعلم أنها متشعبة فالإيجار والمصاريف اليومية والتعليم وبحثي عن عمل لأساهم في نفقات إخوتي والمسئولية المعنوية التي أثقلت كاهلي,ورغم كل ذلك مازال في قلبي حلم أن ألتحق بالجامعة وأتمم تعليمي,مازال قلبي قادرا علي الأحلام رغم قسوة الواقع فهل أجد لديكم ما يمكنني من تحقيق حلمي؟
للبطلة الصغيرة أقول:
نعم لا أملك من الكلمات ردا يثلج صدرك لكنني أحني الرأس لك احتراما وتقديرا إذ حملتي ما لم تتحمله امرأة بلغت من العمر أنضجه,وكنت مثالا للتضحية والصبر,فلا تحزني يا عزيزتي ولا تتوقفي عن الأحلام,وكما ملكت الشجاعة في مواجهة مرض والديك ووفاتهما تستطيعين مواجهة الأقدار التي تخشينها,المستقبل مازال أمامك والأيام تخطو لصالحك فما زلت صغيرة,ونحن معك نطلقها دعوة لكل من يملك مساعدتك سواء بالعمل أو توفير الإيجار المتراكم حتي لا تفقدي منزلك,أو بالمساعدة المادية,أو بتحمل نفقات تعليمك مع بداية العام الدراسي القادم,لا تيأسي مازالت الدنيا تحمل بعض السمو علي أيادي الرحماء.