العذراء مريم هي التي بدأت هذا الصوم, لأنها خاصة بعد صعود المسيح إلي السماء, نالها كثير من التعب والمضايقات والمنغصات من قبل اليهود, الذين حاولوا أن يصبوا عليها غضبهم وضيقهم من المسيح, وخاصة بعد أن قام من بين الأموات.. فالعذراء نالت متاعب كثيرة جدا, وهي المرأة الرقيقة التي يجب أن لا تعامل بقسوة كما عاملها اليهود, كانت العذراء مقيمة في بيت يوحنا حتي تنيحت, نحو أربع عشرة سنة حسب وصية المسيح إليه عندما قال لهذا هذه أمك وقال للعذراء مريم خذي هذا ابنك. وكان يوحنا رسولا يكرز ويبشر وينتقل في كل أرض فلسطين. وكانت العذراء مريم تباشر العبادة من صلاة وصوم. وكانت تذهب إلي قبر المسيح له المجد، ومعها صويحباتها من عذاري جبل الزيتون, لقد اتخذن العذراء مريم رائدة لهن وقائدة لهن, وتمثلن بسيرتها فكن يتبعنها, وتألفت منهن أول جمعية للعذاري, وهو نظام العذراي السابق علي نظام الرهبنة بالنسبة للبنات. لأن في العصور القديمة قبل القرن الرابع للميلاد, كان هناك نظام اسمه نظام العذاري, لمن نذرن عذراويتهن للمسيح, وكان لهم خوروس أو قسم خاص في الكنيسة, ومذكور هذا في كتاب الدسقولية وهو تعلم الرسل, لم يكن هناك نظام للراهبات, إنما كان هناك صف العذاري. وعندما صار البابا ديمتريوس الكرام المعروف بطريركا, وكان في حياته الأولي رجلا متزوجا, وظل متزوجا سبعا وأربعين سنة قبل أن يدعي إلي البطريركية, غير أن زواجه كان من نوع الزواج الذي نسميه الزواج البتولي, مثل زواج آدم وحواء قبل السقوط في الخطيئة, وكزواج يوسف ومريم, عندما صار ديمتريوس الكرام البابا الثاني عشر من باباوات الإسكندرية, ضم زوجته إلي خورس العذراء في الكنيسة, أما نظام الرهبنة للبنات بدأ من القرن الرابع, في عهد الأنبا باخوميوس المعروف بأب الشركة.
العذراء مريم هي التي أنشأت نظام العذاري, لأنها كعذراء بدأ يلتف حولها البنات العذاري بنات جبل الزيتون, وكن يتبعنها وكن يصلين معها وكن يذهبن معها إلي القبر المقدس, حيث كانت العذراء تسجد وتتعبد وتصلي وتصوم أيضا.
ولقد كانت العذراء مريم تقضي كل وقتها في العبادة والصلاة, وكانت تمارس الصوم, مكرسة كل طاقاتها لحياة التأمل الخالص. ولم يكن لها عمل آخر غير تقديس ذاتها, وتكميل نفسها بالرياضات الروحانية العالية. بعد أن نالت مع الرسل, موهبة الروح القدس في يوم الخمسين(أعمال الرسل 1:13, 14),(2:1-4). والمعروف أن العذراء مريم لم تمارس عملا من أعمال الكهنوت, كما جاء في الدسقولية(تعاليم الرسل):النساء لا يعمدن. ونحن نعلمكم أن هذا الفعل خطيئة عظيمة لمن يفعله, وهو مخالف للشريعة…لأن لو كان يجب أن يتعمد أحد من امرأة لكان السيد المسيح يتعمد من أمه(باب 20).
وقد أحبتها نساء وبنات أخريات, منهم صويحباتها اللائي عرفنها في حياتها, وأثناء وجود المسيح ابنها علي الأرض, منهن: مريم المجدلية, وحنة زوجة خوزي أمين خزانة هيرودس وسوسنة وأخريات كثيرات(لوقا8:2, 3),( 23:49, 55), (24:10).
ثم انضم إليهن عدد آخر من العذاري ممن عشقن حياة البتولية, والعفة الكاملة, تبعن العذراء مريم, واتخذنها رائدة لهن في حياة التأمل, والعبادة, والتكريس التام بالروح والنفس والجسد. وقد تألفت منهن, بقيادة العذراء مريم, أول جماعة من النساء المتبتلات المتعبدات, عرفن بـعذراء جبل الزيتون, عشن حياة الرهبنة بغير شكل الرهبنة, وكن يعتزلن أحيانا في أماكن هادئة بعيدة عن صخب الحياة وضجيجها, رغبة في الانصراف إلي الله, في تعبد خالص.
ولقد صارت هذه الجماعة معروفة في الكنيسة الأولي, حتي أن المعجبات من النساء والبنات بمثل هذه الخلوات الروحية, كن يلحقن بالعذاري العفيفات, ويمارسن صوم العذراء, بالتقشف والنسك, في تلك الأماكن الهادئة. ولربما كان هو السبب في أن صوم العذراء, تصومه الكثيرات إلي اليوم, بزهد ونسك كثير, ويمتنعن فيه عن أكل الزيت, علي الرغم من أن صوم العذراء ليس من أصوام المرتبة الأولي. بل وكثير من الرجال أيضا صاروا يصومون صوم العذراء صوما نسكيا بالامتناع حتي عن الزيت أي يصومونه علي الماء والملح, ونظرا لما للمرأة من أثر في البيت المسيحي علي أولادها وزوجها.
فصوم العذراء مبدأه بالعذراء نفسها, العذراء هي التي صامت وظل هذا الصوم مقدسا علي الخصوص بين البنات, وفي عصور الكنيسة التالية بدأت البنات تخرج من البيوت ويذهبون إلي أماكن خلوية كالأديرة لكي يمارسن هذا الصوم بالصلوات وبالعبادة, وبفترات الخلوات الروحية الجيدة التي ترفع من المستوي الروحي. ولعل لهذا السبب أن الأقباط اليوم يقدسوا هذا الصوم أكثر من أي صوم آخر. وذلك بفضل المرأة لأن المرأة عندما تهتم بهذا الصوم تقنع زوجها ثم أولادها, فيتربي الأولاد والبنات علي احترام صوم العذراء مريم, لدرجة أننا نري أن كثيرا من الأقباط يصومون صوم العذراء بالماء والملح, علي الرغم من أنه يجوز فيه أكل السمك.
وأيضا عندما أراد المسيح له المجد أن يضع حدا لآلام العذراء مريم, فظهر لها وقال لها أنا أعلم ما تعانينه من الآلام, وقربت الأيام التي فيها تخرجين من هذا الجسد وتكرمين, لأن جسدك هذا يصعد أيضا إلي السماء, ونزل المسيح له المجد بذاته ليتسلم روحها بعد أن مرضت مرضا خفيفا, وكانت قد بلغت نحو الستين من عمرها, أو علي الأدق 58 سنة و8 أشهر و16 يوما.
وبعد أن تمكن الآباء الرسل من أن يذهبوا ويدفنوا العذراء مريم في الجثسمانية, وهي موجودة بجوار جبل الزيتون وبجوار بستان جثسيماني, ظلوا يسمعون تهليل وترتيل الملائكة, فخجلوا من أن يتركوا الجثمان إلي حال سبيله فظلوا موجودين بجوار القبر ثلاثة أيام, إلي أن اختفت أصوات الملائكة فرجع الآباء الرسل في طريقهم. وهم في الطريق إلي أورشليم رأوا توما الرسول أنزلته سحابة علي الأرض, قالوا له أين كنت, لماذا تأخرت, العذراء مريم تنيحت, فطلب توما أن يعود إلي القبر ليتبارك من جسدها, فذهب معه الآباء الرسل إلي القبر الذي دفنت فيه العذراء مريم, ولما فتحوا القبر لم يجدوا جثمان العذراء مريم, إنما خرجت رائحة بخور زكية, فخطر علي فكرهم أن اليهود رجعوا بعد أن تركوا القبر وأخذوا الجثمان, فلما رأي توما حزنهم قال لهم اطمئنوا يا إخوتي فإن جسد العذراء مريم حمل علي أجنحة الملائكة ورؤساء الملائكة, ولقصد حسن سمح الله أن أتأخر, أنا كنت في بلاد الهند وحملتني السحب لكي آتي فتأخرت, ولكني رأيت جسد العذراء مريم محمولا علي أجنحة الملائكة ورؤساء الملائكة, وكان ذلك فوق جبل أخميم, الذي بني فوقها الدير المعروف الآن بدير العين, وأحد الملائكة قال له تعالي وتبارك من الجسد المقدس فتقدمت وقبلت الجسد, وأعطي توما الرسول الزنار الذي كانت العذراء تربط به ملابسها, والزنار كلمة سريانية وهي الحزام.
فالآباء الرسل سعدوا بهذا الخبر خصوصا أنه من توما, لأن توما له موقف سابق أنه شك في قيامة المسيح, وظهر له المسيح وقال له تعالي يا توما وضع يدك في أثر المسامير وضع يدك في جنبي, ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا, لأن هو نفسه كان يقول إن لم أضع يدي مكان المسامير فلا أؤمن, ولكن الرسل طلبوا أن يروا هذا المنظر وأن يتأكدوا وأن يتوثق الاعتقاد عندهم بصعود جسد العذراء فصاموا, وفي نهاية هذا الصوم وعدهم المسيح أن يروا بأنفسهم جسد العذراء مريم. وبر المسيح بوعده فرأي الرسل جسد العذراء مرة أخري وكان هذا في اليوم السادس عشر من مسري.كنيستنا تحتفل بظهور جسد العذراء في 16 مسري, وفي نهاية الصوم, لكن الواقع إذا أردتم الدقة أن يوم 16 مسري هو يوم ظهور الجسد مرة أخري الذي بر فيه المسيح بوعده, فرأي الآباء الرسل صعود جسد العذراء, إنما الصعود في الواقع كان قبل ذلك, لأنه إذا كانت العذراء تنيحت في 21 طوبة, فالمفروض أن صعود جسدها يكون في 24 طوبة أي بعد ثلاثة أيام من نياحتها, ولكن كما يقول السنكسار: هذا هو اليوم الذي فيه بر المسيح بوعده للآباء الرسل بأن يروا جسدها مرة أخري, وصارت الكنيسة تعيد في السادس عشر من مسري بصعود جسد العذراء مريم.
هذا الصوم بدأ بحياة العذراء مريم نفسها لأنها كانت إنسانة متعبدة, عذراء طاهرة حياتها كلها عبادة وصلاة, وعرفت الصوم منذ أن كانت طفلة في الهيكل, في السادسة والثامنة من عمرها كانت العذراء تصوم, وكانت تعطي طعامها للفقراء وهي في الهيكل, عاشت في جو القداسة والصلاة والتسبيح, عرفت أن تصوم من طفولتها المبكرة مع الصلوات والعبادة والترنيم والترتيل. العبقرية المبكرة لطفلة في هذا السن عرفت الصوم, وأيضا عرفت العطاء, لأنها كانت تعطي طعامها للفقراء وتظل هي صائمة. ويقول عنها التاريخ والآباء القدامي إن الملائكة كانت تشفق علي مريم وهي طفلة فكانت تأتيها بطعام آخر,وهذا شرف مريم أنها وهي طفلة عرفت أن تصلي, وعرفت أن ترنم, وعرفت أن تصوم, وعرفت أن تعطي عطاء للفقراء والمحتاجين.
وبعد قيامة المسيح وصعوده إلي السماء أخذت تمارس الصوم, لأنها أيضا كانت محتاجة إليه من جهة تعبدية, ومن جهة أخري للمضايقات والمتاعب التي رأتها من اليهود, فكانت تصوم متعبدة مع العذارى, وبعد ذلك الآباء الرسل أيضا قدسوا هذا الصوم, وسارت الكنيسة علي هذا الخط, وصرنا نحن إلي اليوم نحتفل بهذا الصوم المقدس ونعتبره من أحسن الأصوام ومن أجمل الأصوام.
هذا الصوم لا يصام صوما عاديا, ولكن كثيرا من الناس يصومونه صوما نسكيا, فتجد كثيرا من الأقباط يأكل بالماء والملح, أي لا يأكل مأكولات أخري مطبوخة, ومن هنا ظهرت الشلولو, والشلولو كلمة قبطي, يأخذوت الملوخية علي صورتها الطبيعية ويضعوت عليها الثوم والملح والبصل بلا طبخ علي الصورة الأولية, وهذه قمة ما يمكن تصوره من حالة النسك للإنسان, لأن كونه يستغني عن الطعام المطبوخ ويقنع بالشلولو فهذا نوع من الزهد.
نجد كثيرا من إخواتنا غير المسيحيين يصوموت هذا الصوم نظرا لأنه لو سيدة نذرت نذرا لأمر ما نجد أن العذراء بحنانها استجابت وقضي هذا الأمر.