لقاء جديد مع أسرة تحمل صليب الآلام ربع قرن
الكتاركتا والشيخوخة أعاقت الأب عن الإبصار.. وإلي طريق النور اصطحبناه
نظارتان للمشي في طريق الحياة الصعب وللقراءة في الإنجيل حيث شاطئ الراحة
منذ ما يقرب من 25 عاما- وتحديدا منذ عام1988- وهو يأتي إلينا حاملا فوق قلبه الكبير هما أكبر, ومع ذلك فقد استطاعت الأيام والتجارب أن تجعل منه نموذجا حيا لمعني الجلد والصبر.. لذلك فالتجاعيد التي تظهر فوق وجهه البشوش خالية تماما من مظاهر التذمر أو العبوس.. لقد رضي منذ البداية أن يقبل حياته بكل ما فيها من مرارة بصدق وحقق إمكانية أن يعيش الإنسان مع صعاب ومشكلات جمة ولكن دون أن تقتله هذه المشكلات خاصة إذا كان يتحداها بالإيمان والشكر والرجاء الذي امتلك نبعه فلم ينفد أبدا.
** الرجل الذي نتحدث عنه هو صديقنا القديم أنور بطرس سمور الذي يبلغ من العمر الآن 76 عاما, هو أسيوطي الأصل ولد في مدينة صدفا ولكنه سرعان ما ترك تلك البلدة وكان طفلا صغيرا مع أسرته التي جاءت لتبحث عن فرصة حياة أفضل بالقاهرة, وأقاموا بمنطقة عين الصيرة, ونشأ الأب أنور في جو أسري مرتبط بشكل كبير بالكنيسة ويستمد قوته من الارتباط بسلاح واحد هو سلاح الصلاة, وحصل الأب أنور علي شهادة الإعدادية القديمة, وتم تعيينه في إحدي الجمعيات الاستهلاكية, ثم قرر الارتباط وتزوج من ابنة عمه فرزقه الله بستة أبناء, ثلاثة منهم أصيبوا بمرض قاس لعين لا يرحم هو مرض ضمور العضلات.
** ربما تذكرتم الآن أصدقاءنا الثلاثة – منال وأيمن وهاني – ولمن لا يذكرهم نسترجع قصتهم.
بدأ المرض ينهش في جسد الابن هاني وكان عمره وقتها نحو اثنتي عشرة عاما, لم يقو علي الحركة وكانت الصدمة قاسية خاصة أن هذا المرض اللعين ليس له حتي الآن علاج ورغم أن الأب أنور فعل كل ما في وسعه, ونحن معه, إلا أن القدر اختار هاني ليصبح عريسا للسماء ويرحل وهو في الثامنة والعشرين من عمره, بعد حياة مؤلمة قيدته في سريره وجعلته عاجزا عن الحركة تماما.
** رحل هاني ولكن التجربة لم ترحل ولم تنته فشبح المرض اللعين يسيطر أيضا علي جسد ابنه أيمن, ثم امتدت أنياب المرض الغادر لتسيطر علي جسد الابنة منال حياة قاسية مع مرض عنيد تصفه الموسوعات الطبية بكونه ناجم عن خلل في الكروموسوم بسبب نقص بروتين العضلات, وغالبا معظم الحالات التي تصاب به تكون وراثية في نفس العائلة, ويبدأ هذا المرض في سن الطفولة آخذا حزام الحوض ثم ينتشر الضمور إلي سمانة القدم وأعراضه سريعة التقدم نحو الأسوأ إذ يصاحبه ازدياد في نسبة حدوث التيبسات في العضلات, كما تضيف الموسوعات أن هذا المرض يبدأ في الغالب بعد سن 10 سنوات وحتي 20 سنة ويمكن أن يظهر بعد ذلك, وحالة الوفاة به تكون نتيجة لتأثر عضلة القلب وهو أمر يكون متأخرا, كما تؤكد تلك الموسوعات أنه رغم كل الدراسات التي أجريت علي هذا المرض إلا أنه لم يفهم حتي الآن لماذا تضعف العضلات في وقت معين ولعضلات معينة حتي بعد اكتشاف الجين المسئول عن المرض, مما تسبب في عدم وجود علاج قاطع له حتي الآن.
** هذا ما جعل الأب أنور يعيش في مأساة كبيرة حيث العلاج الوحيد هو العلاج الطبيعي لمساعدة العضلات علي تأخير الضمور بقدر الإمكان, ووسط هذا الألم وتلك القسوة بدأت الأم أيضا تعاني من متاعب في الغضروف لم تفلح الجراحة في علاجه مما جعلها طريحة الفراش أيضا بشكل شبه دائم.
** الأسبوع الماضي جاءنا الأب أنور يشكو من ضعف نظره بعد أن أجريت له جراحة كتاركتا لإزالة المياه البيضاء, ويطلب نظارتين واحدة للمشي والأخري للقراءة حيث يصر الأب أنور علي قراءة الإنجيل رغم تدهور إبصاره بعد رحلة حياة طويلة وصعبة, فالأب أنور حرص علي تعليم منال وأيمن رغم مرضهما وقسوته, وكان يصحبهما للمدارس والجامعات حتي حصل أيمن علي بكالوريوس التجارة وحصلت منال علي ليسانس آداب قسم التاريخ, وإن كان لم يستطع تعيينهما في إطار نسبة الـ5% التي يكفلها القانون لذوي الإعاقة.
** لصدق الرجل الذي نعرفه منذ سنوات طويلة تكفل صندوق الخير بالنظارتين لكي يستطيع هذا الأب العظيم أن يسير في درب حياته القاسي برؤية واضحة, وأن يستمد من قراءته في الإنجيل المقدس آيات تقوي إيمانه وتساعده علي إكمال رسالته بسلام وسط اضطرابات الحياة التي لا تنتهي.
روبير الفارس