للفن بريقه الأخاذ…فهو يعبر عن روح الفنان وأعماقه…وعن مقدار فهمه للجمال…وخصوصا إذا عرفنا أن الفنان تولوز لوتريك عاش 37سنة فقط…فهو موهبة فذة أعدته الأقدار أن يكون رائدا لفن الإعلان الحديث…ومعظم إبداعاته تمجيد للمرأة فكانت سببا في نجاحه في عالم الألوان تعويضا عن مأساة حياته وهو في الخامسة عشر من عمره…بالرغم من قسوة المرض تغلب علي آلامه بفرشاته التي أسقطت بصمات روائعه علي سطوح لوحاته.
وأود هذا الأسبوع أن أتحدث عن الفنان هنري تولوز لوتريك ##1864-1901## كرائد من رواد الفن الحديث…وعن أحد إبداعاته الموجودة في متحف محمد محمود خليل بالجيزة…الذي يضم الكثير من التحف النادرة واللوحات…جمعها محمود خليل بمعاونة خبراء الفن الفرنسيين علي مدي أربعين عاما,واستطاع اقتناء مجموعة من اللوحات من أعمال كبار الفنانين الذين ملأت شهرتهم أنحاء العالم وخصوصا الفرنسيين في القرن التاسع عشر.
تميز لوتريك بلوحاته الراقصة والتي تقودنا إلي شخصيته التي تظهر مقدار فهمه للحياة,حيث سجل الإنسان في حالات مختلفة بحركات إيقاعية بألوانه الزاهية تعبيرا عن الرقص…فكان أقدر الفنانين علي تفهم التكوينات المتناسقة بالرغم من ضمور عظامه وقسوة المرض الذي جعله قزما.
ومن هنا تظهر نفسية الفنان لوتريك من خلال لوحاته ونسيج ألوانه التي تتداخل فيها ظروف حياته وتكوين شخصيته…فقد أثرت رحلة العذاب في حياته علي الفن والحب.
وفناننا تولوز لوتريك ولد في مدينة البي جنوب فرنسا عام 1864,درس بمدرسة الليسيه في باريس حتي سن الرابعة عشر…لم ينتظم في دراسته ولم تستمر السعادة للطفل هنري تولوز لوتريك المدلل…فمنذ عام 1878وهو يعاني من الكآبة والمرض…حيث كسرت عظمة ساقه اليسسري,وبعد عام تعرض لوتريك لحادث آخر كسرت فيه ساقه اليمني… وتوقف نمو عظامه…فأصبح كسيحا مشوها ذا جذع طبيعي فوق ساقين قصيرتين…ولكن بفضل الله وبإرادته هو تغلب علي انطوائه وأخذ يرسم ويقرأ…ويتعلم اللغات العديدة حتي بلغ الثامنة عشر.
التحق فناننا بمدرسة الفنون الجميلة بباريس,حيث تعمق في دراسته للفن وبرع في أسلوبه التأثيري…وتعرف علي عدد من الفنانين…كان من بينهم فان جوخ ##1853-1890##,والفنان الإيطالي موديلياني ##1884-1920##,والفنان الفرنسي إدجار ديجا ##1884-1917## الذي تأثر بفنه حيث صور الحياة التي كان يشاهدها في أوساط اللهو والتي كان يحبها مثل ملاهي ##ميرلتون## و##المولان روج## وعاش معظم حياته فيها.
كما كان يرسم موضوعاته من أجواء الحانات والضجيج والفوضي…لكي يدفن نفسه في تلك الحفلات الصاخبة…وينسي أحزانه…فرسم رواد تلك الملاهي…وكل ما يخصهم بعطفه وحبه…فكانت أجمل وأهم فترات حياته الإبداعية حيث استلهم طريقا مميزا بين كبار الفنانين ومدارسهم…فالقدر يعطي ويأخذ…يهب ويحرم.
كان لوتريك يرسم باستمتاع وحنان غريبين كما في لوحته المعروضة حاليا بمتحف محمد محمود خليل بعنوان ##درس الغناء## رسمت بألوان زيتية مقاس 57.5* 69سم,نجد فيها خطوطا لونية وكأنها قصيدة موسيقية من قلب الفنان إلي قلب المشاهد…تعبر عن الانفعال بالغناء بالإضافة إلي الحركة الموسيقية…نلمس فيها ألوانه المميزة من خلال سيدتين إحداهما جالسة تعزف علي البيانو…والأخري واقفة بجوارها وعيناها متعلقتان بالنوتة الموسيقية لتساعدها علي درس الغناء.
واللوحة تكشف عن جوهر شخوصه المرسومة…وعن آلامها وأفراحها من خلال نغمات لونية تعطي لشخوصه وميضا ضوئيا يتلألأ علي سطح اللوحة الداكنة باللون البنفسجي بدرجاته…حيث الألوان الزرقاء الشفافة التي تؤدي إلي لمسات لونية من البنفسجي المحمر…فكان لوتريك يعتمد في رسومه علي الخط بلمسات سريعة ويضيف إليه اللون في كتلة لونية محسوبة,نحس فيها بالألوان الساخنة كالأحمر المائل إلي النبيتي…مع الأزرق في درجات لونية حتي تضئ باللون الأبيض…يسقطها بخطوط عصبية علي سطح اللوحة فيكسبها تناسقا في لحظة إندماج…فالخطوط تندمج مع اللون في كيان واحد…تكشف عما في خاطره…حيث ألوانه اللاذعة تتوسطها نعومة الوجهين…فتوضح لنا مدي اهتمامه بالشخصية التي رسمها برؤيته وحبه الصادق للشخصية…فكل لوحاته انطلقت من حبه لأمه التي اهتمت به منذ مرضه وحتي وفاته بين أحضانها.
إن إبداعات تولوز لوتريك تستوقفنا لنقرأ ما كتبه علي سطوح لوحاته بالرسم…فكانت في نفسه أشياء بعيدة المنال…فأخذ يرسم بكل قواه حتي يسابق عمره القصير…معبرا عن حياة السعادة والجمال…بالرغم من قسوة معاناته التي ولدت الإيقاع والنغم والسحر الذي ينبعث من ألوان إبداعاته…فكانت شجاعة منه في مواجهة الحياة بعد مرضه.
ومضي صابرا علي نظرات الإشفاق يواصل أسلوبه الفني الفريد…تاركا إبداعات كثيرة تعبر عن بهجة الحياة في عصره…وخصوصا في موضوعات الرقص والموسيقي…كما أنه كان مجددا في فن الإعلان علي الحوائط للملاهي والديكورات…مع الإعلانات المطبوعة علي الحجر ##ليتوجراف## ورسومات عديدة عن السيرك…فقد كشفت أعماله عما كان يبحث عنه من جمال الخطوط في تكوينات تشبه الأرابيسك…فوهب رسومه إحساسا جديدا…نلمس فيها مزيجا من الحس الأليم والبهجة الحادة في تعبيرية فائقة.
وفناننا لوتريك نموذج للفنان الذي يتمتع بالذكاء والفكر…وإبداعاته تبين لنا قيمة ما أحدثته رسالته من تجديد في مضمون الفن وصياغته…فهو يعبر عن روح الفن وأعماقه الذي يجمع بين التحليل النفسي للشخصية المرسومة مع التمكن بريشته من التعبير عنها بألوانه المميزة.
رحل تولوز لوتريك عن الحياة التي قضاها بين المرض وحياة الليل…والإدمان الذي أدي إلي دخوله مستشفي الأمراض النفسية عام 1896بعد أن عاش حياة قصيرة يواصل إبداعاته حتي استطاع أن يكون أحد شوامخ الفن مع بداية القرن العشرين,وأثري بلوحاته جميع متاحف العالم…كما يوجد جزء كبير من إبداعاته في متحف تولوز لوتريك في مدينة ##البي## مسقط رأسه…الذي افتتح عام …1922وأصبح اسمه علامة بارزة في سجل تاريخ الفن…والفن المعاصر.
2008