وسط ضجيج وتوارد الأنباء من كل حدب وصوب حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية وانهيارات أسواق المال والشأن النووي الإيراني وعمليات الاختطاف في مصر والقرصنة قبالة السواحل الصومالية والتفجيرات العشوائية في العراق وأفغانستان وفضيحة الحليب الملوث في الصين, أطل خبر صغير برأسه فاسترعي انتباه الكثيرين لما له من دلالات وتداعيات علي الأوضاع في كل من باكستان وأفغانستان وربما غيرهما.
الخبر كان حول قرار اتخذه الرئيس الباكستاني الجديد آصف علي زرداري في التاسع والعشرين من سبتمبر المنصرم بتعيين الجنرال أحمد شجاع باشا رئيسا جديدا لجهاز الاستخبارات الداخلية المعروف اختصارا باسم آي. إس. آي, وذلك خلفا للجنرال نديم تاج الذي كان قد تولي المنصب قبل عام واحد فقط من استقالة قريبه الرئيس الباكستاني السابق الجنرال برويز مشرف ليكون الأخير بذلك القائد السابع عشر لهذا الجهاز الحساس, إذا ما استبعدنا مؤسسه غير الباكستاني, الأسترالي من أصل إنجليزي ##كاو هوم##.
وعلي حين رأي البعض في هذا الحدث جزءا من حركة تنقلات واسعة في الجيش الباكستاني, أراد قائد المؤسسة العسكرية الجنرال أشفق برويز كياني من خلالها استبدال مؤيدي الرئيس السابق مشرف بجنرالات مؤيدين له, خاصة وأن الخطوة جاءت متزامنة مع أربعة عشر تعيينا جديدا في القيادات الأمنية والعسكرية العليا, فإن آخرين قرأوا الحدث قراءة مختلفة فقالوا إن أهميته تكمن في ما يلي:
قراءة مختلفة لخطوة الرئيس الباكستاني
* أن الرئيس آصف زرداري أراد من خلال خطوته تلك استعراض عضلاته أمام الداخل والخارج كرئيس قادر علي اتخاذ القرارات السريعة والحاسمة متي ما تطلب الأمر ذلك, وكان فيه خدمة للوطن وسمعته.
والمعلوم أن الفترة الأخيرة شهدت اتهامات وشكوك من قبل واشنطن وحلفائها لجهاز الاستخبارات الباكستاني باللامصداقية في الحرب ضد الإرهاب وبدعم الأصوليين والمتشددين من أنصار حركة طالبان المدحورة وتنظيم القاعدة الإرهابي, إضافة إلي ضغوط متزايدة لحث إسلام آباد علي إبداء قدر أكبر من الحزم في محاربة الإرهابيين والمتشددين.
والجدير بالذكر أنه كلما ارتفع صوت في الغرب الحليف ينتقد جهاز الاستخبارات الباكستاني أو يتهمه بالتقاعس عن أداء مهامه علي أكمل وجه, يأتي الرد واصفا تلك المزاعم بأنها خبيثة ومؤكدا علي اتسام رجال الجهاز بأعلي درجات المناقبية والولاء والتنظيم. علي أن الأمر تغير فجأة في الأسابيع القليلة الماضية, فبدا كما لو أن إسلام آباد لم تعد قادرة علي مواصلة الإنكار إزاء الأدلة التي يضعها الأمريكيون أمامها علي الطاولة أو إزاء تردد وكالة المخابرات الأمريكية في مشاركة المعلومات الأمنية الحساسة مع جهاز المخابرات الباكستانية خشية تسربها إلي المتشددين الإسلاميين, أو اطلاع هؤلاء عليها بطريقة أو بأخري.
ومن هنا جاء تصريح وزيرة الإعلام الباكستانية السيدة شيري رحمن أثناء مرافقتها لرئيس الحكومة يوسف رضا جيلاني في زيارة الأخير إلي واشنطن في أغسطس الماضي, والتي لئن نفت فيه ضلوع مخابرات بلادها في أحداث دموية في الهند أو أفغانستان فإنها اعترفت للمرة الأولي باحتمال وجود أفراد داخل جهاز الاستخبارات الباكستانية ممن يتعاطفون أيديولوجيا مع حركة طالبان أو أفكار تنظيم القاعدة, وبالتالي يسهلون تحركاتهما.
ونقول للمرة الأولي لإنها فعلا أول مرة يتفوه فيه مسئول باكستاني بمثل هذا الكلام, وإلا فان كثيرين ممن ليست لهم صفة رسمية قالوا بذلك مرارا, من أهمهم الصحفية الكندية كاثي غانون (مراسلة وكالة الأسوشيتدبرس في أفغانستان لأكثر من 18 عاما) والتي ذكرت في كتابها المعنون بـ من الحرب المقدسة إلي الإرهاب المقدس: إن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش طلب من رئيس الاستخبارات الباكستانية السابق محمود أحمد يوم إن زار الأخير واشنطن قبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان أن ينقل إلي زعيم طالبان الملا محمد عمر بأن عليه تسليم نفسه وزعيم القاعدة أسامة بن لادن وإلا فإن الولايات المتحدة ستغزو أفغانستان وستسقط نظامه بالقوة العسكرية, لكن نظرا لتعاطف الجنرال الباكستاني مع طالبان, كانت الرسالة التي نقلها إلي الملا عمر معكوسة بمعني أن واشنطن لن تغزو أفغانستان وستكتفي في أحسن الأحوال بضربات جوية, وأن الصمود كفيل بإلحاق الهزيمة بالأعداء.
* إن الرئيس آصف زرداري أراد بخطوته تلك إعادة إخضاع جهاز الاستخبارات الباكستانية لسلطة وزارة الداخلية, وتصفية العناصر المتشددة التي اخترقته فحولته إلي دولة داخل دولة, وتحديدا منذ زمن الرئيس الأسبق الجنرال محمد ضياء الحق, وذلك منعا لتحميل بلاده مسئولية كل حادثة إرهابية أو دموية تقع في أفغانستان أو الهند علي نحو ما حدث في السابع من يوليو المنصرم حينما وقع انفجار في السفارة الهندية في كابول (أسفر عن 57 قتيلا) فقيل إن ##عملاء استخبارات باكستانيين ضالعون في الحدث##, بل وأيضا علي نحو ما حدث مؤخرا في حادثة تفجير فندق ماريوت في راوالبندي, حيث قيل إن عناصر من الاستخبارات مكلفة بحماية الفندق سربت معلومات أمنية دقيقة إلي المتشددين الإسلاميين ليستهدفوا الفندق وضيوفه وعلي رأسهم رئيس البلاد.
وفيما يشكك بعض الدبلوماسيين _ مثل الدبلوماسي الأمريكي المسئول عن شئون جنوب شرق آسيا ريشارد باوشر _ في نجاح زرداري في إصلاح جهاز المخابرات المعطوب والمخترق, يخشي آخرون _ بناء علي أمثلة سابقة – من أن تؤدي عملية إصلاح الجهاز إلي تشجيع كبار ضباطه علي استباق الأمور والقيام بانقلاب عسكري كنوع من الحماية لنفوذهم ومصالحهم.
أداة في يد المارشال أيوب خان والجنرال ضياء الحق
والحقيقة أن العبارة التي وضعنا بين مزدوجين في الفقرة السابقة لطالما ترددت طيلة العقود الستة الماضية منذ تقسيم الهند البريطانية, ولا سيما في المنعطفات الحادة في تاريخ شبه القارة الهندية.
علي أن الدمار الذي لحق بسمعة الجهاز ومناقبيته يرجع أولا إلي أواخر الخمسينيات حينما تحول إلي أداة في يد المارشال محمد أيوب خان لتعزيز نظامه العسكري و لجمع المعلومات عن خصومه من الساسة المدنيين ومن في حكمهم من المتمردين البشتون والبلوش أو ممن كان يشك في ولائهم مثل ضباط الجيش من العرق البنغالي في ما كان يسمي وقتذاك بالجناح الشرقي للبلاد.
غير أن هذا لا يقاس إطلاقا بما حدث للجهاز في ظل حكم الديكتاتور محمد ضياء الحق. وملخص القصة أن دور جهاز الاستخبارات الباكستانية الذي تأسس باديء الأمر في عام 1947 من وحدتين (الأول تحت مسمي جهاز الاستخبارات الداخلية والآخر تحت مسمي الاستخبارات العسكرية), قبل أن يحول إلي مؤسسة أمنية واحدة تحت اسم جهاز الاستخبارات الداخلية غداة فشله في القيام بدوره في الحرب الهندية-الباكستانية الأولي (1947), ويتم تزويده برجال مدنيين وعسكريين من أسلحة البحر والجو والبر قد توسع كثيرا بحيث تجاوز خدمة مصالح باكستان إلي خدمة مصالح بعض الدول الحليفة علي نحو ما حدث أثناء الحرب الأفغانية ضد السوفييت, بل تجاوز خدمة مصالح البلاد العليا إلي خدمة أفراد في السلطة, هذا ناهيك عن تحوله في الحقبة التي تلت الغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1978 والحقبة التي تلت قيام الثورة الإيرانية في عام 1979 إلي مؤسسة تصدر بضاعتها وخبراتها لمن يطلب من أجل سحق معارضيه في الداخل مقابل مساعدات مادية معتبرة.
تراجع نفوذ الجهاز في عهد بوتو الأب
وهكذا فإن الجهاز الذي نحن بصدده اليوم عاش عصره الذهبي الأول في عهد الجنرال أيوب خان, بينما تراجع دوره ونفوذه كثيرا في عهد خليفته, الرئيس المدني ذوالفقار علي بوتو, الذي كثيرا ما اتهم الجهاز بالرعونة والحماقة وبالتالي التسبب في انسلاخ الجناح الشرقي للبلاد تحت اسم ##جمهورية بنجلاديش الشعبية##, ليعود الجهاز ويعيش عهدا ذهبيا آخر في زمن الجنرال ضياء الحق حينما منحه الأخير سلطات واسعة لمطاردة خصومه في ولاية السند من أتباع حزب الشعب الذي كان ضياء الحق قد انقلب علي زعيمه ومؤسسه ( ذوالفقار علي بوتو) وأعدمه شنقا في يوليو 1977, وللتجسس علي فصائل المجاهدين والجماعات البلوشية المتعاطفة معهم خوفا من وصول الأسلحة من الفريق الأول إلي الفريق الثاني, ولجمع المعلومات وتحليلها عن المنظمات الباكستانية الشيعية ذات الصلة بنظام الملالي في طهران.
بداية تعاون الجهاز مع الأمريكيين
ومما لا يمكن تجاوزه أنه في هذا المنعطف تحديدا بدأت واشنطن مد يد العون الفني والمادي إلي جهاز (آي. إس. آي) الباكستاني, حيث قام الأخير لهذا الغرض بإنشاء قسم خاص تحت قيادة العقيد محمد يوسف , تولي إرسال عسكريين ومدنيين باكستانيين إلي الولايات المتحدة من أجل التدريب علي العلوم الاستخباراتية المتقدمة. وقد قام هؤلاء بعد عودتهم إلي باكستان بلعب أدوار مهمة دعما لفصائل المجاهدين التي كانت تتخذ من باكستان منطلقا لمحاربة السوفييت, ولا سيما الفصيل الذي كان يتزعمه حليف أمريكا بالأمس وعدوها اليوم ## لورد الحرب ذو الولاءات المتقلبة قلب الدين حكمتيار##.
دور الجهاز في خلق طالبان ودعم القاعدة
ومما لا يجب أيضا المرور عليه مرور الكرام في هذا السياق, الأدوارالمحورية المهمة التي لعبها الجهاز في خلق حركة طالبان وتمكينها من الاستيلاء علي السلطة في كابول سواء عن طريق ضخ المساعدات المالية أو إمدادات الأسلحة والرجال علي نحو ما أبرزته تقارير مخابراتية أمريكية في مارس 1998 . فضلا عن أدوارها في خلق جماعات مسلحة مناهضة لنيودلهي وتزويدها بما تحتاجه من أجل جلب الصداع للهند في إقليم كشمير المتنازع عليه.
والحقيقة أن هناك قائمة طويلة لدي الولايات المتحدة بأسماء من ارتبطوا في الماضي بجهاز آي, إس. آي الباكستاني أو تعاونوا معه أو تدربوا علي يدي عناصره من أجل خلق المشاكل في أكثر من دولة طبقا, ومن بينهم بطبيعة الحال عناصر من تنظيم القاعدة الذي يقال إن أحد قادته ويدعي أبو زبيدة قد التقي في عام 2000 وقبل وقت قصير من انتقال بن لادن من السودان إلي أفغانستان بمسئولين عسكريين كبار في الاستخبارات الباكستانية مثل الجنرال مشرف علي مير الذي كان يشغل وقتذاك منصب قائد سلاح الجو.
أكاديمي بحريني متخصص في الشئون الآسيوية