لا يهمني أين أو متي سأموت. لكن يهمني أن يبقي الثوار منتصبين يملأون الأرض ضجيجا كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين. إنها إحدي العبارات الخالدة للثائر الأسطورة تشي جيفارا التي سيظل تحقيقها أملا للمقهورين في كل مكان من أرجاء العالم. تري من هو جيفارا ذاك الذي خلدته الملايين؟
في 14 مايو 1928 جاء أرنستو جيفارا لعالمنا من أسرة أرجنتينية الأصل, درس الطب, ولكنه لم يستطع مداواة جسده المصاب بالربو, فظل يعاني طيلة حياته منه, وكان المرض سببا في عدم قبوله للالتحاق بالخدمة العسكرية. ميله لمساعدة المحتاجين والفقراء والمظلومين كان واضحا منذ بداية حياته, فكانت له صلة وثيقة بأكثر الناس فقرا وحرمانا.
كانت رحلته لأمريكا الجنوبية عام 1953 أكبر الأثر في تكوين إحساسه بضرورة رفع الظلم الواقع من الإمبرياليين علي المزارع الأمريكي البسيط.
قاد جيفارا العديد من الثورات علي الظلم في أمريكا الجنوبية وأفريقيا إلي أن دخل كوبا مع زعيمها فيدل كاسترو بعد نضال ثوري لإسقاط ديكتاتورية باتيستا, فمنحته الثورة الجنسية الكوبية وتولي عدة مناصب أهمها وزير الصناعة ورئيس البنك المركزي هناك. ثم تنحي بعد فترة عن هذه المناصب واختفي تماما قائلا: الثوار حينما يجلسون فوق الكراسي ينتابهم الصقيع, وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة في كياني.
ألقت قوات الجيش البوليفي القبض عليه بعد قيادته لمجموعة من عشرين فردا من المحاربين لمجابهة النزعة الأمريكية المستغلة لثروات دول القارة وهناك اقتادوه لإعدامه رميا بالرصاص ليظل الأسطورة الخالدة لمناهضة الظلم والقهر في كل بقاع الدنيا.
تلك هي قصة جيفارا الثائر الأسطورة الذي زار مصر خلال نضاله مرتين للقاء الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. واليوم تزور ابنته أليدا جيفارا مارش مصر للمرة الأولي وتلقي ترحيبا من كافة الجهات, ويتحاور معها كل المهتمين بمناصرة العدالة لكونها ابنة جيفارا, علي رأس هذه الجهات كانت نقابة الصحفيين التي استضافت أليدا مساء الخميس الماضي بدعوة من رابطة الشئون الخارجية التي يرأسها سامح عبدالله, الصحفي بالأهرام, والذي أدار الندوة واحتفل بعيد ميلاد أليدا خلالها ليظل في ذكراها ارتباط زيارتها لمصر بتاريخ ميلادها.
في البداية قال كمال جاب الله, رئيس جمعية الصداقة المصرية – الكويتية: عندما زرت كوبا في عام 2006 شعرت أنني أري في كل كوبي جيفارا الثائر الذي نحتفل الآن بمرور 80 عاما علي مولده و40 عاما علي إعدامه إذ ضحي بحياته من أجل مقاومة الظلم والقهر. وليحيا آخرون في بلاد أخري بعيدا عنه أحرارا.. واليوم نستقبل ابنته لتحدثنا عنه وعن مبادئه.
بدأت أليدا حوارها مع الحضور بحماس شديد قائلة: كان والدي يقول إن الشباب مهم للعمليات الثورية وخلق مجتمع قوي قادر علي التحدي.. والتحدي لا يأتي فقط من الثورة بل من ممارسة مبادئها في كل لحظة.
ربما لا أكون محترفة للمجال السياسي, لكنني أؤمن بكل مبادئ أبي وأمارسها في كل لحظة.. فنحن لا نحتاج سوي أن نحلم بالمساواة والعدالة, ولا نحلم بأن نكون زعماء كبارا في الدولة, وإنما نعيش من أجل مبدأ العدالة, لذلك فنحن في حاجة لأن نستعيد قوانا ونتعلم من بعضنا البعض بغض النظر عن العرق واللغة والدين.
يجب أن تتوقف التكتلات الاقتصادية التي تمتلك ثروات القارة الأفريقية وتستغلها, لنمتلك مواردنا ولا نستمر في إثراء بنوك الدول الأخري بأموالنا.
هنا سألت مروة توفيق – صحفية بالأهرام – عن الحصار الاقتصادي المفروض علي كوبا من أمريكا والمستمر لمدة, خمسة عقود وكيف تنظر أليدا لمستقبل العلاقات الأمريكية – الكوبية خاصة بعد تولي أوباما الرئاسة هناك.
سارعت أليدا بالإجابة قائلة: تغيير الرئيس لا يعني تغير في السياسة الأمريكية لأن الشركات الاقتصادية الكبري هي التي تمتلك زمام الأمور الاقتصادية في نهاية المطاف, وكانت تلك الشركات علي مدار الثلاث سنوات الأخيرة تدعم الحرب في العراق بما لها من مصانع تعمل في هذا الإطار, لذلك لا أعتقد أنه يمكن أن يتغير كل هذا بسهولة.
وعن طلب سحب القوات العسكرية من العراق, فيصعب جدا تحقيقه لنفس السبب, أما الحصار علي كوبا, فنأمل أن تكون الأزمة المالية التي تعاني منها أمريكا سببا في إحداث تغيرات داخلية تخدم فك الحصار, فعندما تحدث أوباما عن التغيير وقف الجميع خلفه.. لكننا لابد أن نري لنستطيع أن نصدق.. فدعوه يأخذ وقته وفرصته, ثم نري ماذا سيفعل.. ربما يكون الأمر في صالحنا جميعا.
الأب المناضل
طارق سعيد – صحفي بالكرامة – قال: أعدم والدك وأنت في سن الخامسة من عمرك فلم تتعاملي معه كأب, ولكن ماذا عنه كمناضل بالنسبة لك؟
أجابت أليدا: والدي جيفارا هو الأب المناضل القائد الزعيم الثوري, يمثل كل المعاني الجميلة الرائعة فآخر مرة رأيته فيها كنت صغيرة جدا, لكنني أحتفظ بتلك المرة في ذاكرتي, إذ كان مرتديا للملابس العسكرية ودخل علينا متخفيا كما لو كان شخصا آخر, ولم أعرف آنذاك أنه والدي.. أمي كانت تحمل أخي الصغير علي كتفها فربت عليه بحنان كبير.
ذات مرة سألوني لماذا أحب أبي – كان عمري حينها 16 عاما – وقالوا لي الأب المحبوب يكتسب الحب لأنه يحيا مع أبنائه, بينما لم يحيا جيفارا معكم. وكانت إجابتي: عندما يترك الرجال مالهم وبلادهم وأولادهم من أجل إيمانهم بفكرة يكونون جديرين بالحب.
أفلام جيفارا
إيناس حلمي سألت: هل أوفت الأفلام التي صنعتها السينما الأمريكيون حق جيفارا أم كانت ضده فشوهت التاريخ؟.
هناك أفلام وثائقية لم أعلم عنها شيئا, أما بالنسبة للفيلم السينمائي الذي صنعته أمريكا, فلم يكن ضد أبي لكنه لم يمنحه حقه, لم يشوهه ولكنه لم يذكر بأمانة كل الحقائق في تاريخه.. فقد صور الفيلم جيفارا علي أنه ضارب نار فقط, بينما لم يتناول أهم ما لدي جيفارا وهو أنه صانع رجال. ونموذج ثوري.
أحمد علي – صحفي: هل يحتاج العالم لجيفارا آخر اليوم؟
أليدا: المهم ألا نقلد جيفارا, بل نستوعب مبادئه ونطبقها علي اختلاف ظروفنا وأماكننا.. لقد عاش جيفارا يناضل ويدافع من أجل إقرار العدل والمساواة.. وإنني لأري ملايين من جيفارا في عالمنا الذي بالقطع يحتاج إليهم لكنهم لا يعلمون كيف يصلون إلينا.. فقط علينا أن نبحث عنهم ونعضدهم ونقف خلفهم.
في ظل الثورة الكوبية ما الذي حصلت عليه المرأة هناك من حقوق؟ كان هذا سؤال أمل أيوب – صحفية.
أليدا: ثقافتنا بها جزء كبير ذكوري.. فدائما ما يري الرجال أنهم أفضل من النساء, ولكن هناك مساندين للمرأة الكوبية ظهروا بعد الثورة مثل كوسيه مارتيه الذي يقول: من يضرب امرأة بفرع زهرة لا يستحق أن يكون رجلا, هكذا بدأت المرأة تحصل علي جزء من حقوقها وكرامتها إلي أن شغلت 60% من المناصب والوظائف في كوبا, لكنها مازالت حتي الآن تعمل كافة الأعمال المنزلية ولا يستطيع الرجل هناك أن يصنع قدحا من القهوة لذاته.
أرادت أليدا أن تختتم لقاءها بنصيحة ودعوة أطلقتها للجميع قائلة: ليعلم الجميع أن النضال هو إمكانية أن نتعلم أشياء أخري وأن ندافع عما نحتاجه بالفعل وأن نكون أكثر تضامنا مع من حولنا وإلا سيكون النضال بلا معني.
لا فرق بين مسلم ومسيحي
أخيرا تقول أليدا: إذا حلمنا بالعيش في عالم ينعم بالحقوق والمساواة لا فرق بين مسلم ومسيحي, لا فرق بين أبيض وأسود, وعملنا علي توفير الرعاية الصحية بين المواطنين.. لو فهمنا أن الشعب المثقف وحده من يستطيع أن يصل لتكوين مجتمع واحد.. سنكون حققنا مبادئ جيفارا.