يقول السيد المسيح: ” الأمين في القليل، يكون أميناً في الكثير”. ونقرأ فى سورة التوبة: “وقُلُ أعْمَلُوا فسيرى اللهُ عملَكُم ورَسولُهُ والمؤمنون” (آية 105) .
كلٌ منّا يتساءل: “ماذا فعلتُ لوطني وأهلي ومجتمعي؟”
كل فرد منّا هو جندي في موقعه، وكما أن الواجب يفرض على الجندي أن يرضى بالدور المطلوب منه، ويلازم المكان المعيّن له، كذلك يجب على كل شخص أن يقوم بعمله بإخلاص وأمانة ليس حباً فى نفسه، ولكن من أجل مصلحة الآخرين. ونجد شعار الجندي المخلص: ” الموت ولا الإستسلام”. وتأكيداً لذلك يصون بلاده وإستقلاله بالعزّة والكرامة. لأن الوطنية الحقيقية هي دفاع عن أرض الوطن ولو إقتضى الأمر التضحية بالحياة، لأن الوطن بالنسبة للشرفاء والمخلصين أغلى من الحياة.
وأنت أيها الشاب المليء بالقوة والحيوية والصحة، ماذا قدّمت لأبناء وطنك وجيلك؟ يقول أندريه موروا: “البطالة والفراغ رأس مال الشيطان”. كل من حولك ينتظر منك دوراً هاماً فعالاً وفي أبسط الأمور اليومية والسلوكيات الحميدة. فالمجتمع ينتظر منك أن تصبح عنصراً خيّراً للإنسانية جمعاء. فهل قمت بهذا؟ والأخلاق النبيلة تقتضيك أن تحترم المرأة مهما كان عمرها وتعتبرها كأم أو أخت أو ابنة لك . هل أخلصت في ذلك؟
وأسرتك الصغيرة التي تعبت وقامت بتضحيات لا حصرة لها من أجلك، تأمل منك أن تكون فخرها وعزّها، فهل تفكّر في هذا وتحققه لها؟ والعلم يدعوك لأن تنهل من كنوزه وثرواته، حتى تنشر النور من حولك للقضاء على الجهل والظلام، فهل لديك النيّة الصادقة للقيام بهذا؟
والوطن الذي إحتضنتك أرضه وظللتك سماؤه يبني عليك أفضل آماله مقابل ما يقدّمه لك كل يوم، فهل بادرت بشيء نحوه؟ أُنصت إلى الكلمات التي تَفَوّه بها الزعيم المناضل سعد زغلول: ” إنني رجل قد وضعت تحت تصرّف أمّتي، عقلي وإختباري وبياني. فإن استفادت الأمّة من عملي، فذلك ما يجعلني سعيداً. وإلا فهو واجبٌ قد أخذته على نفسي. فأنا أقوم به لأريح ضميري”.
فالوطن له في أعناقنا ديون كثيرة لن نوفيه إياها مهما قدّمنا له وضحّينا في سبيله. لأنه الأرض التي فتحت ذراعيها لإستقبالنا حين أتينا هذا العالم، ونستظل بسمائه ونستنشق هواءه، ونعيش من خيراته. نُولد ونحيا ونموت فيه.
عندما حُكم على سقراط الفيلسوف بالموت، أودعوه السجن حتى لحظة تنفيذ الحكم عليه. فتسلل إليه تلميذه النجيب كريتون Criton ليساعده على الهروب من السجن. فقال له سقراط: “أشكرك يا عزيزي على عواطفك النبيلة ومساعيك الكريمة. ولكن إسمح لي أن أرفض كل هذه الفرص التي تقدّمها لي … لأن المواطن المخلص لا يحق له أبداً أن يثور على بلاده والهروب من القضاء… إن حكم عليّ وطني ظلماً، فلا يحق لي التطاول عليه، لأن له عليّ كل الحقوق… فأنا لوطني ولأبناء وطني، وليس لذاتي ومصلحتي. لقد عاهدت أن أخضع لشرائع بلادي، فلا يجوز لي التهرّب منها ، حتى ولو كانت لا ترضيني. لا، لن أهرب لأن وعد الحُر دَيْنٌ عليه”. ما أجمل إخلاص ونُبل وأمانة سقراط تجاه وطنه الغالي، لأن الإنسان الوطني الخالص هو الذي يسعى لخير وطنه ويحافظ على مصالحه. لا توجد عبارة أقوى مما ردده ويلسن وهو على فراش الموت: “الشكر لله؟ لقد قمت بواجبي”. فالواجب دائماً ، ويجب أن يبقى، الهمّ الأول والأخير لكل شخص، حتى لو تعرّض بسببه لخطر الموت.لأن الموت لا بدَّ أن يأتي عاجلاً أم أجلاً.
لذلك يجب علينا أن نقوم بواجبنا على أكمل وجه، كما نطالب بحقوقنا اليومية. فالإنسان لا ينتظر أن يجد كل ما يطلبه بين يدية وفى كل لحظة وبكل يُسر. مما لا شك فيه أن الله يعتني بطيور السماء، فيهب كل طائر رزقه، ولكن لا يلقي له طعامه في عشّه، بل يدفعه بالغريزة إلى البحث عنه. وكما يقول المثل: “لنطلب من السماء أن تساعدنا فى عملنا، لا أن تنجزه عنّا”. فالإنسان الإتكالي، هو كاللص الذي يعيش من تعب الغير. ويطلق القديس فرنسيس الأسيزي على أمثال هذا: “ذبابة تقتات من فضلات الغير”. وعندما سُئل المخترع العظيم إديسون عن سر النجاح فأجاب: “صبر ومثابرة وإحتمال”. وعن العبقرية فقال : “2% وحي وإلهام و98% عرق وإجتهاد”. فالفشل في عمل شيء، أفضل من النجاح في عدم خوض التجربة. وتقول الحكمة الصينية: “إذا أردت أن تحصد بعد بضعة شهور فازرع حنطة، وإذا أردت أن تحصد بعد بضعة أعوام فإغرس شجرة، وإذا أردت أن تزرع للأجيال فعليك أن تربّي رجالاً”.
ونحنُ، تُحيط بنا نماذج كثيرة مشرّفة في الإخلاص والتفاني والتضحية من أجل الغير، فلنعتبرها مثالاً لنا يُحتذى به. وما أجمل الصورة المشرّفة التي يقدّمها الوالدان لأبنائهما وخاصة ما يقومان به نهاراً وليلاً من تضحيات ليساعدا هؤلاء البنين حتى آخر لحظة دون إنتظار أي مقابل!
كم من مُسنين يقومون بواجباتهم حتى ولو كانت الصحة هشّة والعمر يتوارى! ونتذكر أمثولة واضحة:عندما مرّ كسرى أنوشروان بفلاح عجوز يغرس نوعاً من الشجر الذي لا يؤتي ثمره إلا بعد زمنٍ طويل، فقال له كسرى : “يا والدي العزيز! إنك تتعب نفسك عبثاً لأنك لن تذوق ثمره أبداً!” فأجاب العجوز: ” لقد صدقت يا مولاي! ولكن الذين سبقونا غرسوا، فأكلنا. ونحن نغرس ليأكل من يأتي بعدنا”. ففرح كسرى من هذه النفس النبيلة والعظيمة وأمر بأن يكافئوه. فقال الفلاح للتو: “يا مولاي! هاءنذا جنيت ثمرة غرسي قبل الآوان”.
أين نحن من هذه الشهامة والتضحية؟! لنتعلّم إذاً أن نعمل دائماً غير منتظرين المنفعة الشخصية والتي نحصل عليها في أقرب وقت. ولكن نعمل لأن العمل شريعة كل مخلوق حتى لو لم يكن في حاجة. وليكن هدفنا الأول هو منفعة الغير. فكما أننا نأكل ونتنعّم من تعب الذين سبقونا، كذلك علينا أن نسعى في إفادة الغير من ثمرة شقائنا. “فالمقياس الحقيقي للنجاح ليس مقدار ما ربحته أو حققته لنفسك في حياتك، وإنما ما قدّمته للآخرين” (داني توماس).
إذاً… لماذا لا نصبح ودعاء كالحمل، وصبورين كالجمل، وعاملين كالنحلة، ومدبّرين كالنملة ومبكّرين كالديك، ونشيطين كالسمكة؟! إن فعلنا هذا، لن نصبح عالة أو عبء على مجتمعنا.
وكما يقول المثل الإنجليزي” “خيرٌ لك أن تُبلى بالعمل من أن تصدأ بالراحة”.