من المحبب للنفس أن يصير الإنسان عظيم، لكن عظمته لا ينبغي أن تفصله عن كيانه الروحي بل ينبغي أن تنبع من واقعه الروحي هذا.
فلم يخلقنا الله لنكون عظماء نمجّد ذواتنا، بل لنكون أبنائه نسبحه ونخدمه فيحقق فينا وبنا إرادته.
ذاتك…كيف تنتصر عليها؟
قالت شابة: كانت أمي تقول لي: صلّي يا إبنتي وقولي للرب “خلصني يارب من نفسي ومن ذاتي” فكنت أندهش من كلامها جداً، ولكن بعد أن عرفت الرب، برزت أمامي نفسي تحاربني أشد الحرب، فأدركت أهمية قول أمي أن أصلي ليخلصني من نفسي، لأنه بعد أن نتخلّص من خطايانا نكتشف ما هو أرهب من الخطايا.
وقال آخر: أن ما يهمنا عند التوبة هو خطايانا وليس أصلها، لكن بعد حين نكتشف الوحش الرابض في داخلنا، وهو “أنا” ومن ثم نسعى للخلاص من ذلك.
إن الإنتصار على الذات ليس هو وليد لحظة أو صدفة، ولكنه نتاج جهاد وتدريب، ومسئولية وسهر ويقظة وصحو وحذر وفطنة، وتضافر قوى النفس الإنسانية من إرادة وعقل وعاطفة داخلياً وخارجياً.
لم تأخذ المسألة مع بطرس أكثر من دقائق قليلة حتى ترك شباكه وسفينته لإتباع المسيح، ولكن ترك نفسه، والتخلي عن ذاته استغرق ثلاث سنوات كاملة.
إنه الإنتصار على الذات هو قهر الذات وهزيمتها ظاهرياً وباطنياً، ومع أنه يوجد بداخلنا نزاعات وصراعات وتناقضات وإنقسامات ومشاحنات تجعلنا نقف عاجزين أمامها ومتسائلين: ماذا نفعل وكيف نعمل؟
نلاحظ أن الذين ركّزوا على ذواتهم ونفوسهم ضاعت حياتهم، والذين أضاعوا حياتهم ونسوا أنفسهم نجوا من فخاخ الذات ووجدوها وقالوا مع بولس “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا2: 20)، وعاشوا بالوصية “من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها”(مت10: 39)
ولهذا يمكننا أن نتغيّر وننتصر على ذواتنا.
1- بالصوم والصلاة
تجاه مغريات العالم من الشهوات التي تحارب الذات وتقف أمامها وضدها مثل “شهوة الجسد، شهوة العيون، وتعظم المعيشة” (1يو2: 16)
لأن هذه الثلاثية من أخطر وأمرّ الخطايا التي تسقطنا في كبرياء ذواتنا، الوحي يؤكد أن “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم” (مت17: 21)
إن كان “الجسد يشتهي ضد الروح والروح تشتهي ضد الجسد” (غلا5: 17) فلابد من المسئولية تجاه نفوسنا وذواتنا “كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء” (أف5: 15).
قال أحدهم: “إنكار الذات بدون صوم وصلاة يشبه نسراً أو طائراً مكسور الجناحين”
وقال آخر: “أنه لا شئ يخلصك من الأنانية مثل وجودك في حضرة الله”.
2- حاسب نفسك أولاً بأول… ودائماً.
كم من أخطاء وخطايا، كم من سقطات وزلات، كم من ذنوب لم تتب عنها، وكنت تبرز أخطائك وترمي بها على الآخرين باللوم عليهم وإدانتهم، وترفع ذاتك كأنك فوق الحساب والعقاب.
لهذا حاسب نفسك دائماً وتب كل يوم عن كل ما ترتكبه بقصد وبدون قصد: “إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت” (مز50، 4).
كن حازماً ورادعاً مع نفسك وذاتك ولا تساومها ولا تتباطأ في محاسبتها.
3- عش حياتك بقلب منكسر ومنسحق
قال داود “قريب هو الرب من المنكسري القلوب، ويخلص المنسحقي الروح” (مز34: 18). وأيضاً “ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يالله لا تحتقره” (مز50/17)
لهذا يجب أن تكون إرادتنا خاضعة لإرادة الله وأن تكون قلوبنا منسحقة حتى نرى في إختباراتنا اليومية عمل يد محبته الثابتة. والله يستخدم لمجده مثل هؤلاء.
إن إنكسار قوة يعقوب الطبيعية إنكساراً تاماً في فنيئيل هو الذي أوجده في الحالة التي تسمح بأن يلبسه الله قوة روحية.
وأنه يضرب الصخرة في حوريب بعصا موسى تفجر منها الماء للشعب العطشان.
وبعد أن كسر رجال جدعون الثلاثمائة جرارهم، رمز إنكسار قلوبهم، أضاء النور من الداخل فأفزع إعدائهم.
كذلك عندما كسرت مريم قارورة الطيب فاحت رائحته الجميلة وملأت كل البيت وأيضاً عندما أخذ الرب يسوع الخمسة الأرغفة وكسرها تكاثر الخبز في نفس عملية التكسير وصار كافياً لأن يشبع الخمسة آلاف رجل عدا النساء والأولاد.
ولما قبل الرب يسوع أن يكسر جسده على الصليب جرى من موته نهر يفيض بماء الحياة.
كذلك عندما تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت ينبت قلبها الداخلي حاملاً المئات من الحبات الأخرى.
فالله ينتظر أن يستخدم عدم نفعنا في ذواتنا ويمتعنا بقوته وكمالاته. وإن كان الناس في أعمالهم المتنوعة يطلبون الأقوياء والناجحين والغالبين، فالله هو إله المنكسرين والمنسحقين الذين إختبروا الفشل في ذواتهم.
للمقال بقية،،