قراءة في ملف “الأمور المسكوت عنها” (721)
نشرت “وطني” في عددها الماضي تغطية شاملة لمبادرة عظيمة تحمل شعار “سالموا جميع الناس” وهي ثمرة جهد مشترك بين أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية والمسكونية التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ووزارة الأوقاف بالتعاون مع منظمة “دياكونيا” السويدية التي تهتم بالمجتمع المدني.. هذه المبادرة تستهدف العمل على ترسيخ مفاهيم المحبة والأخوة واحترام الكرامة الإنسانية بين أبناء الوطن، مع كفالة حرية الاعتقاد والعبادة بالإضافة إلى نبذ العنف والتمييز قولاً وسلوكاً.
وقائع الاحتفالية التي شهدت إطلاق هذه المبادرة حفلت بالكلمات الطيبة والخطط الطموحة والنوايا الحسنة التي تبادلها أقطاب المبادرة، وهي في مجملها تمثل مساراً وطنياً محموداً يغرس بذرة طيبة في الأرض المصرية ويتعهدها بالرعاية ويرويها بالعمل الدؤوب حتى تنمو وتنتعش وتنضج وتأتي بثمار صالحة… في إطار البرامج المستنيرة الساعية لتغيير واقعنا على مدى متوسط أو بعيد.
مع كل الإعجاب والتقدير لمبادرة “سالموا جميع الناس” لم استطع أن أغض البصر عن أوضاع آنية يعاني منها الأقباط في نواح عدة في بلادنا تنطوي على العصف بكل المبادئ التي تتبناها المبادرة.. فلا هم يشعرون بالمحبة ولا الأخوة ولا احترام الكرامة الإنسانية وسط شركائهم في الوطن الذين يعيشون بينهم، ولا هم يتمتعون بحرية الاعتقاد والعبادة، ولا هم يجدون في الدولة التي يحسبون أنهم مواطنين فيها أي تدخل حاسم لنبذ العنف وإيقاف التمييز الذي يتعرضون له قولاً وسلوكاً!!!
ودعونا نعترف أنه لا يكاد يمر شهر – وفي بعض الأحيان أسبوع – إلا ونبتلى بأعمال عدائية غوغائية إرهابية ضد الأقباط، وخاصة في مراكز وقرى ونجوع صعيد مصر – وعلى رأسها جمهورية المنيا المستقلة – حيث يتم محاصرة أماكن صلاة وعبادة الأقباط وترويعهم وتهديدهم والتحرش بهم والاعتداء عليهم، في ظل وجود ممثلي الدولة من مسئولين سياسيين وإداريين وأمنيين لا حول لهم ولا قوة سوى الإدعاء بصون السلام المجتمعي وأدواتهم لإدراك ذلك هي الخنوع أمام زئير الغوغاء وتهدئة ثورتهم والانصياع لرغباتهم بإبعاد الأقباط عن دور عبادتهم وإغلاقها، غير مدركين أن في ذلك منتهى المهانة لهيبة وكرامة الدولة ومنتهى التفريط في سيادة القانون ومنتهى العصف بحقوق المواطنة والمساواة والحماية الواجبة للضحايا الأقباط ومن مثلهم منتهى الاستخفاف بدستور هذا البلد الذي يعج بجميع هذه الحقوق والحريات والضمانات!!!
وإياكم أن نخدع أنفسنا بكافة صور “الغلوشة” على هذا الواقع البائس من عينة ترديد المعايير التي يسطرها الدستور، أو التغني بمثاليات رئيس الجمهورية وهو يفتتح كاتدرائية ميلاد المسيح في العاصمة الإدارية ويدخلها وسط محبة وترحيب حضورها من الأقباط، أو استدعاء حكمة ووطنية قداسة البابا تواضروس الثاني مقولته العظيمة “وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن”، أو الاحتماء خلف الكلمات السمحة التي تخرج من فم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في التأكيد على سماحة الإسلام وحماية الكنائس… إن كل تلك الصور الوطنية لا تكتسب مغزاها الحق أو مدلولها الصحيح طالما هناك في ربوع مصر المحروسة مواطنين يقفون أمامها غير مصدقين لأن واقعهم يفيض بالمهانة والذل والقهر ولا يشعرون بأي حماية لمواطنتهم ولا كفالة لحقوقهم ولا هيبة لدولتهم ولا صولجاناً لقانونهم!!!
رائع جداً أن نرس دعائم مشاركة المؤسسات الدينية والمجتمع المدني في علاج مشاكلنا ونحتفي بجهودها وخططها نحو تغيير الواقع المريض وتنوير العقول المظلمة وتجديد الخطاب الديني.. لكن يتحتم أن ندرك أن كل ذلك يحتاج جهوداً مضنية وزمناً طويلاً ليؤتي ثماره… وإلى أن ندرك ذلك لا غنى أبداً… أبداً… أبداً… عن تصدي الدولة لإعمال القانون بكل صرامة لردع المخالفين والمفسدين ومتحدي هيبتها وكرامتها… فليس بالحب وحده يتم إرساء السلام المجتمعي.. لكن بصولجان القانون أيضا.