بعد أن خمدت الحروب والمناوشات التي شهدتها مصر بعد عهد محمد على باشا الذي شرف بالعديد من الإنجازات العلمية التي افادت بها مصر أنذاك ، إلا أن كان للخروب والحملات اثرها السلبي في تدمير بعض الآثار التي أنشأها محمد على باشا ،ومن ضمنها الطواحين الموجودة في أعلى الجبل الشرقي بمنطقة المقطم بمصر القديمة، وبعد أن كان شأن هذا المكان في تطوير وإعمار البلاد أصبح مهجورًا ومتروكًا للصوص يندسون به للمعيشة هربًا من تطبيق القصاص عليهم في أي وقت، وأيضًا مكان لتحقيق الملاذ لشهواتهم الشيطانية الإجرامية، حتى لا يسطيع أي شخص عادي ان يمر من تلك المنطقة إلا وينهشه تلك اللصوص.
ومع ذلك بالرغم من كل مايحدث في هذا المكان كانت الدولة المصرية تحرص على اقامة حراسة أمنية على أثارها فوضعت غفير ليحرس المنطقة ولكن بالطبع بالشكل الصوري فقط، فمن يستطيع مقاوة العصابات، فكانوا يتركونه متأكدين انه ليس عليهم ضرر منه.
وفي إحدى المرات مر شاب عابد يرتدي الزي الرهبني البسيط ينظر إلى واحدة من تلك الطواحين ويتفرس بها كأنه مُغرم عاشق بين الحين والاخر يأتي ويقف امامها ويتأمل متمنيًا القرب منها ،مما لفت نظر الغير الحارس للمنطقة ، ماوراء سر هذا الرجل فهو لا يبدو لص ولا حتى يبحث عن مافقد منه، فما هو اللغز وراء هذا الشاب وفي مرة من ضمن المرات أقترب منه ليسأله عن ما أمر هذه الزيارات المتكرره لطاحونة مهجورة مهدومة الجدران فهو لا فنان يتأمل في منظر بديع ولا عالم في الآثار المصرية فما الخطب؟!
فأدهشه بالزهول رد العابد قائلًا: “اريد ان أسكن هنا” ، وبالطبع استنكر الغفير من طلبه معللًا له ان الطاحونة اثار ملك الدولة التي تخضع لهئية الآثار وليست عقار للإيجار والسكنى، فسأل الراهب:”من المسؤل” رد الغفير:” الدكتور حسين فؤاد راشد” ، وحين سمع الراهب الاسم عُلم يقينًا انه قد قضيًّ أمرهُ وذهب مسرعًا لمقابلة مدير الآثار المصرية وكانت هذه ليست المرة الأولى ان يقابله فمنذ ثلاثة اعوام ماضيه من عام 1933 ،وبالتحديد في الثالث والعشرون من شهر مايو قام مدير الاثار بزيارة دير البراموس العامر وكان معه مدير كلية اللاهوت بنيويورك وتقابل مع الراهب “مينا البراموسي” الذي اصطحبه في الجولة في الدير وقدم لهم زخم من المعلومات عن اثار الدير والرهبنة بشكل عمومًا بأسلوبه الشيق الذي حفر في فكر وقلب مدير الاثار شخصية هذا الراهب وهو ما كان خير شفيع بان يرحب بمقابلته على الفور عندما توجه له في هيئة الاثار بعدها بثلاث سنوات، وعرض عليه رغبته في إيجار الطاحونة الموجودة بالجبل الشرقي في جبل المقطم بمنطقة زهراء مصر القديمة، وعلى الرغم من صعوبة التحكم في ممتلكات الدولة الا انه امر بأن يُكتب عقد إيجار بأسم الراهب مينا البراموسي بإيجار لمددة 99عام بخمس مليميات أي نصف قرش صاغ في كل شهر، وأوصى غفير المنطقة برعايته وتلبية ما يحتاجه كما امره بان يصعد اليه يوميًا بالماء.
وذهب بعدها الراهب منا البراموسى يطلب الاذن من ابوه الروحي البطريرك البابا يؤانس ال119 بطريرك الكرازة المرقسية ليسكن نواحي الجبل الشرقي بالقرب من كنيسة الملاك الغربي الذي كان يسكن في احدى الغرف المقرونه به، ليعيش حياة الوحدة التي اعتاد عليها في الديربعد ان ترك مغارته في وادي النطرون ووافق البابا وسمح له بالسكنى في الخلاء في الطاحونة.
فكان الراهب مينا البراموسي يشبه أباؤه يترك العالم يتوجه القحلاء يبني مذبح الرب ويتعبد ويصير اب لامم وشعوب، وهذا ماتم بالفعل فقد سكن الاب مينا البراموسي تلك الطاحونة وانار بالصلاة والصوم ظلمة المكان اذا فرت منه اللصوص، وقام احد الخدام الذي كان يصلي بكنيسة الملاك مع ابونا مينا وقتها ببناء وتعمير الطاحونة، وإقامة مذبح في الدور الثاني منها حتى اصبت مزار يتردد عليه شعب الكنيسة في وقتها حتى أصبح الان يحتشد الملايين من الزوار لينالوا البركة والرحة النفسية واثقين في شفاعة الراهب مينا البراموسي، الذي صار إلى راعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بأسرها وحولت الخمس مليمات وكر اللصوص إلى ملجأ وراحة النفوس.