كان الرّب يسوع ، كلمة الله ، في اليهوديّة . بعد انتشار خبر قطع رأس النبيّ يوحنا المعمدان ، مضى في السفينة إلى مكان قَفر . والسفينة هنا ترمز إلى جسده . ” فمَضَوا في السَّفينَةِ إِلى مَكانٍ قَفرٍ يَعتَزِلونَ فيه ” . في هذا المكان القفر، كان الرّب يسوع “يعتزل” لأنّ كلمته كانت معزولة وتعاليمه كانت مخالفة للتقاليد وللأفكار التي تلقّتها الأمم . لذا، حين علمت جماهير الأمم بأنّ كلمة الله جاء ليسكن في صحرائهم ، أسرعوا سيرًا على الأقدام من جميع المُدُن وسبقوهم إلى ذلك المكان، أي أنّهم تخلّوا عن التقاليد الخرافيّة المتّبعة في أوطانهم والتحقوا بشريعة الرّب يسوع المسيح الجديدة .
خرج الرّب يسوع للقائهم لأنّهم كانوا عاجزين عن المجيء إليه ، فاختلط مع “سائر الناس” ، وتمكّن من قيادتهم نحو الداخل .
كانت كثيرة الجماهير التي خرج للقائها. مشيعًا عليها نور حضوره ، نظر إليها بإمعان . وحين رأى نوعيّة الأشخاص المحيطين به ، وجدهم جديرين أكثر بالشفقة والرحمة . هو الذي يُعتبَر خارج الألم بصفته الله ، ها هو يتألّم بسبب حبّه للبشر ، لقد سيطر عليه التأثّر الشديد، فشفاهم من أمراضهم كلّها وحرّرهم من الشرّ ، وأطعمهم الخبز الجوهري ، خُبز الحياة ، وأشبعهم من الطعام الأرضي لكي لا تخور قواهم .
ماذا نفهم من معجزة الخبز والسمك الأولى ؟
” أعطوهم انتم ما يأكلون … عندنا خمسة أرغفة وسمكتين …. ” ( متى ١٤ : ١٤ – ٢١ ) .
أشفق يسوع على الجمع ، الذي أتى ليستمع إلى تعاليمه ، شفقته الإنسانية والإلهية لم تتوقف على مستوى العواطف والكلام ، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك ، وعبّر عنها بشكل نشيط وفعّال . لقد تجاوب الرب يسوع مع حاجات الجموع الجائعة والعطشى إلى الحقيقة والمعرفة.
” ليس عندهم ما يأكلون … فأخذته الشفقة عليهم ” ، يسوع هو الملجأ الذي إليه تأتي الجموع لتُشبع جوعَها وعطشها . وتعرف جيداً أنّ لا حلّ لمشاكلها وصعوباتها إلاّ معه فقط .
في هذه الأعجوبة موقف مؤثّر ومُلفت للنظر ، إنه موقف التلاميذ الذين طلبوا منه أن يصرف الجموع ، لقد اختار التلاميذ الموقف الأسهل والأسرع ، إنه موقف الهروب والإنسحاب والتخلص من مسؤولية تلبية حاجات وطلبات الجموع ، علماً أنّ هؤلاء لم يطلبوا طعاماً يأكلونه ولكنّ التلاميذ هم الذين شعروا بأنه إن بقي هؤلاء فسيعوزُهم الطعام . ولهذا توجهّوا إلى الرب يسوع وطلبوا منه أن يصرفهم .
التلاميذ بشَر ، والبشر هكذا يعاملون بعضهم ، ربّما لأنهم لا يكترثون ، أو ربّما لأن الإنسان يهتمّ بنفسه أولاً وبتدبير أموره ، أو البحث عن مصالحه وراحته وأنانيته ، وربّما لا لوم عليه في كل ذلك . هذا طبعاً من منطلقه ، وجهة نظر البشَر ، ولكن ليس من جهة فكر الإله ، لأن إلهنا إله رحمة وإله شفقة ، إله عطاء ووفاء وصِدق وتضحية .
نحن البشر أيضاً في بعض الأحيان نتعرّض لمواقف شبيهة بالتي واجهها تلاميذ الربّ ، ويُطلب منّا بشكل مباشر او غير مباشر أن نقوم بعمل خير أو بمهمة إنسانية ، او خدمة أخوية ، ولكن لأمور شخصية ، أو لظروف خاصة ، أو لأسباب أنانية او محبة الذات نحاول أن نتهرّب ونصرف نظرنا عن الآخر ونتجهاله .
ولكن لماذا هذا التصرّف ؟
لأن المكان والحالة والظرف الذي نحن فيه أصبح عبارة عن قفر صحراوي فارغ ، إمّا لاسباب داخلية تنبعث من ضعفنا واستسلامنا وهربنا من المسؤولية ، وإمّا لأسباب خارجية تتعلّق بالحياة وصعوباتها وتجاربها ومشاكلها ومآزقها . ولكن في كلتا الحالتين ، الموقف المسيحي هو الأقوى ، هو الذي بطلب منّا بأن نعطي ما عندنا بمحبة حتى ولو كان بسيراً . المهمّ أن نؤمن بأن لدينا ما نعطيه وبأنه رغم كل ما يحيط بنا من تجارب وصعوبات ، علينا أن نتحمّل مسؤولية التضحية والعطاء ، وأن تقدّم طعامين لإخوتنا البشر في حياتنا :
طعام روحي جوهري يتجلّى بأعمال الخير والمحبة والمواقف الروحية ، وطعام ماديّ يتجلّى بإطعام الآخر بالغذاء الضروري لنموه وصحته وتلبية حاجاته اليومية حين يكون ذلك ممكناً ونافعاً .
نحن مدعوون أن نسأل المسيح الإله ، الطعام الحقيقيّ والجوهري لحياتنا الذي نتناوله في سرّ القربان المُقدّس ، الإفخارستيا ، أن يزرع فينا روح المسؤولية والإرادة الحسنة الصلبة التي تهدف إلى مساعدة الآخر ومساندة الضعفاء والمحتاجين والبسطاء ، لا سيما النفوس الضعيفة التي ليس لديها من يذكرها وليس عندها ما تقدّمه .
وخلاصة هذا التأمل : أنّ يسوع إستعمل ما كان عند تلاميذه من خبز وسمكات لإشباع الجموع ، ومن هنا فهِم التلاميذ أن يسوع يدعوهم إلى المشاركة والعطاء ليعلّمهم أنّ كل عطية إلهية تأتي من المشاركة والتضحية ونكران الذات .
إن المشاركة حتى في القليل هي السبيل الوحيد لعطاء الله . ولذلك طلب إليهم يسوع أن يبدأوا ويُشركوا الآخرين بما يملكون .