اليوم الأخير فى الشهر الأول من العام الجديد، تأخذنى الشوارع إلى عمقها، أواجه البرد بجاكت خفيف يسمح للهواء بالتسرب إلى داخل عظامى المنهكة، أمشى بلا هدف فى طرقات لا تنتهى، أتابع دون اهتمام أضواء السيارات المارة بجانبى، يعلو صوت خطواتى على بقايا الأسفلت، محاولا تجاوز الصور المتتابعة بداخلى دون جدوى، مشهد طردى من العمل مازال يلاحقنى، موجات من الفشل تغمر روحى ، لم أحاول أن أبدو مثاليا ولكنى لا أجيد لغة زملاء العمل الملعونة، لا أعرف ولا أملك ما امنحه لمديرى المباشر حتى أنال رضاه، فقط اكتفيت بالصمت، فى إنتظار معونة من السماء تآخرت كثيرا. المنازل المتلاصقة غارقة فى نعاسها الأبدى وأضواء خفيفة تتسلل برفق عبر زجاج نوافذها المغلقة على أحلام أصحابها، من بعيد يقترب كلب أسود تناثرت الجروح فوق ظهره ، صوته يضرب مركز الخوف بداخلى، استسلم لدورانه حولى دون أن أنطق، يتشمنني بأنفه ، أمشى بخطوات مسرعة وهو خلفى ، أكياس من القمامة بجوار سور السكك الحديدية تنقذني ، يقف يتفحصها، وأنا أمسح بمنديلى عرق باهت رسم خيوطه حول جبهتى، ودقات قلبى تضخ الدم إلى أنحاء جسدى المتعب. فى الطريق انتبه أني تجاوزت شارعنا القديم فأعود إليه، يدى تحمل بعض الأرغفة وكيس من الفول فقد سخونته، أعبر الشارع العمومى، أتسرب إلى داخل الحوارى الضيقة ، أصعد إلى سطح المنزل، أفتح الغرفة، أجلس بجوار الباب، أعود إلى الخارج ، أقف بجوار سور السطح وإضاءة خافتة تصل من بعيد لإعلان سيارة فخمة بجوارها فتاة ترتدى ملابس قصيرة ، أنظر إلى فوق وأبتسم، وأمامى تعبر من فوق الكوبرى سيارات عديدة داخل كل منها من يرتدى ثوب الحلم، يجرى كل منهم ليحققه، ليبحث عن حلم آخر، وأنا هنا مازلت أتعثر فى حلمى الأول. فى البدء كنت إنتظر صعودها إلى السطح ، أراقبها من خلف نافذتى المكسورة ، فى الخطاب الأول كتبت لها عن مشاعرى وجمالها الطفولى البرىء ، وضفائرها الرائعة ، يومها كانت إنتهت من إمتحانات الثانوية العامة ، وطلبت رواية لتتسلى بها ، وجدتها فرصة لأضع الخطاب داخلها، وعندما سألتها عن رأيها ، إبتسمت ، ووجدت الخطاب مكانه فى نفس الصفحة. فى غرفة الغسيل المجاورة لغرفتى، كانت القبلة الأولى والوعد بعدم الافتراق ، فرحنا معا بخطاب الترشيح لكلية الآداب، فى العام الثانى لها بالكلية، الفتاة الطيبة لم تعد كذلك ، فى فرح إبنة صاحب المنزل رقصت ببراعة، فى اليوم التالى كانت الجارة التى تسكن بالطابق الثالث تطلبها لأبنها المسافر، وفى الاجازة التالية كانت “الكوشة” منصوبة أمام غرفتى. للمطر رائحة يعرفها الساهرين وحدهم ، تتساقط المياه، تغسل أحزانهم المعتادة، القطرات المتساقطة تزور نوافذهم المغلقة على أوجاعهم العادية، أمد يدى باسطا كفى تماما كما كنت أفعل منذ سنوات طفولتى الماضية، المياه تصنع برك غير منتظمة في أرضية السطح ، ورعشة اصابعى المبتلة تنفذ إلى قلبى لتزيد من وحدته الأزلية. مازال فى جيبى نقود قليلة ، لن تكفى لاتمام الشهر، احاول الهرب من الصور المرسومة لمستقبلي ، أفشل فى المواجهة، تجتمع أمامى ضحكات كل زملاء العمل ، تتحد أصواتهم في صوت واحد يرن بداخلي ووجههم المتنقلة حولى تتفحصنى وأصابعهم المدببة تشير نحوى، اقترب من السور، ارفع رأسى إلى فوق من حيث يأتى المطر، أضع يدى فى جيبى اجمع نقودى القليلة، أنثرها فى الهواء، لعل طفلا يجدها في الصباح القادم ليشترى بها الحلوى التى يتمناها.