للأديان السماوية هدف واحد على الأرض به يرتفع الإنسان إلى السماء التي يتوق إليها، والهدف هذا هو: عمل الخير الفاعل في المجتمع الواحد المتعدّد. والإنسان المؤمن بهذا الهدف، يقوده إيمانه إلى معرفة المحبة والسلام أساس وأعمدة جوهر الدين والإيمان والأعمال. وبهذا لا يزدري ولا يهمش أحدنا الآخر لاختلاف في الدين أو المذهب أو العقيدة. لأن كل واحد منا ولد من أب وأم أورثاه الاسم والدين. ولا يحق لأي إنسان كان أن يعادي أخاه الإنسان أو يتهجّم عليه أو يُسيء إليه أو إلى حياته، ويحط من كرامته للتميز في الدين لأن العداوة والإساءة والتهجم يولدّون الحقد والبغض والكراهية، ويسببون قتل المحبة وفقدان السلام والطمأنينة. لذلك يجب قلع هذه الآفة من العقول والضمائر والقلوب والنفوس، وخاصة لدى الجهلاء والمتعصبين والأصوليين الذين لا يفقهون شيئاً في الدين وتعاليمه؛ بل يتسلحون به لمصالحهم الشخصية ولتفكيك نسيج اللحمة والوحدة الوطنية، والحياة الاجتماعية والروابط العائلية والأسرية والعيش المشترك، والدين منهم بريء.
عندما نقرأ الكتب السماوية ونتأملها لا نجد أي دين أو نبي يدعو إلى فعل الرذيلة وزرع الفتن وشن الحروب وقتل الإنسان، قال الرب يسوع:”سمعتم أنه قيل للأولين:”لا تقتل، فإن من يقتل يستوجب حكم القضاء”. أمّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القضاء، ومن قال لأخيه:”يا أحمق” استوجب حكم المجلس، ومن قال له:”يا جاهل” استوجب نار جهنَّم (متى ٥ : ٢١ -٢٢).
والأديان بأجمعها تُعلّم القيام بترجمة الأقوال الجميلة إلى أفعال جليلة. ومن يصنع خيراً مع أخيه الإنسان يبرهن على أنه مؤمن بالله واليوم الأخير، ألم يقل السيد المسيح:”فكُل ما أردتم أن يفعل الناس لكم، افعلوه أنتم لهم: هذه هي الشريعة والأنبياء”(متى ٦ : ١٢). وكلما صنعتم شيئاً لواحد من إخوتي، فلي قد صنعتموه”. فما أروع وما أجمل النظرة التي لا ترى فيها العين البشرية إلاّ الوجه الإنساني للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله.
إن الله، جلّ جلاله، عندما خلق كل شيء رآه حسن، وأهم ما أبدع في الكون والخليقة هو الإنسان. والأديان تكرم الإنسان وتعمل لخيره ورفع مستواه، وتقدمه وازدهاره في كل المجالات وعلى كل الأصعدة . فلا فرق بين جبلة مخلوق وآخر. وما من عرق أصفى وأفضل من عرق. ولا من دم أنقى وأطهر من دم. ولا من لون أجمل وأبهى من لون… فالكل من آدم، وآدم من تراب.
كلنا نعيش على هذا الكوكب، وكل واحد منا له وطن يفتخر ويعتز به، ويعمل على رفع شأنه والحفاظ على وحدته وسيادته وعلى كل شبر من أرضه، والسهر على سلامه واستقراره، لأننا جبلنا من تراب أرضه، ونلتحف بسمائه، ونستنشق من عليل هوائه، ونأكل من خيرات أرضه، ونشرب من عذب مائه، ونغتني بثرواته…
والذي يفرقنا ويفصلنا عن بعضنا من بعض، ويا للأسف ، كبرياءؤنا وأنانيتنا، والسيطرة بالقوة على أضعفنا وأصغرنا وعبادة الشهوات فينا، وانجرفنا نحو كل ما هو زائل وأرضي ودنيوي.
لذلك ضاع العقل منا وهجرنا، وما عاد الإنسان يعي إنسانيته وشموخه وعظمته، وغابت شمس القناعة عن فكرنا وعقلنا وأرضنا وبيوتنا ومؤسساتنا، فتملكتنا أطماع الحياة وأسرنا الاهتمام بنزواتنا ومصالحنا.
لقد قرّبنا عصر التكنولوجيا والاتصالات من كل شيء إلا من أنفسنا. وعلمتنا العولمة كل شيء إلاّ علم وثقافة المحبة وصنع السلام، ومد جسور التقارب والحوار، علم محبة الإنسان لأخيه الإنسان والأخذ بيده ومساعدته في بناء مستقبله وتأمين له حياة أمينة ورغيدة وسعيدة.
فليرجع كل إنسان إلى ضميره وليدخل إلى أعماق أعماق قلبه، ليكتشف علم المحبة الذي زرعه الله فيه بتعاليم دينه الذي ولد معه وفطر عليه، فيجد فيه طريقه المستقيم المزيّن والمفروش بورود الفضائل وأعظمها: محبة الله ومحبة القريب واحترامه، عندئذ يثبّت إنسانيته الحقة في الوجود.