هناك فرق دائما بين الواقع والخيال.. وكما لا يجب أن يفسد الواقع الخيال، فلا يجب أن نعيش الواقع كخيالات. أقول هذا بمناسبة الانتخابات الرئاسية التى يتداخل فيها الخيال بالواقع، وفى هذا التداخل تزداد حدة التفاؤل لدى البعض وتزداد حدة التشاؤم لدى البعض الآخر. هذا على الرغم من أن تداخل الواقع بالخيال فى هذه الانتخابات يعتبر أقل بكثير من الإنتخابات السابقة والتى كانت مغرقة فى الخيالات بشقيها الثورى الدينى.
وفى سياق التداخل الحالى ثمة الكثير من التشاؤم قبل البعض والكثير من التفاؤل من قبل آخرين. وإذا كان من بين المتفائلين من يرى أن الرئيس القادم يمتلك عصا سحرية وفى مقدوره إصلاح أحوال البلاد والعباد، فإن من بين المتشائمين من يرى أن الرئيس القادم لن يكون ثوريا، وهذا يكفى للتشاؤم، وكأن بالإمكان أن يكون الرئيس ثائرا!!.
لا شك أننا فى زمن لم يعد يصلح معه أن يكون الرئيس مرشدا، وهذا أحد الأسباب الرئيسية لفشل مشروع الإسلام السياسى والذى أراد للسلطة أن تكون فوق الدولة، فكان الرئيس ظلا باهتا للمرشد الأعلى. ومع ذلك فإن السلطة فى بلادنا لازالت تراهن على فعالية “الثقافة الدينية المحافظة” فى إدارة شئون البلاد، ولكنها وهى تفعل ذلك فإنها تزعم أنها متحضرة وكل ما تفعله إنما من باب الحفاظ على “مكارم الأخلاق”. وهكذا فإن “توظيف الدين” ليس إلا وظيفة سياسية. ولا أتصور أن الرئيس القادم سيتحرر أو يحرر الدولة والمجتمع من بعض أشكال الرجعية الثقافية والسياسية، لأنها ببساطة مازالت فاعلة ويمكن توظيفها.
وإذا كان للدين “وظيفة سياسة”، فإن الثورية “حالة سياسية” قد تتحول إلى “وظيفة”، وثمة فرق بين الإثنين. فكما يسعى الرئيس “المرشد” إلى الإرتكاز إلى مرجعية دينية قبيل التسويق السياسى، فإن الرئيس “الثورى” يسعى إلى الإرتكاز إلى ثورة من قبيل التسويق السياسى أيضا. والإنتساب إلى ثورة ما مسألة مألوفة فى عالم السياسة، وقد حدث هذا بشكل كبير فى السابق فى أعقااحلب مرالتحرر الوطنى. ومن الرؤساء من لم يعش حالة ثورية، فكان عليه أن يخترع ثورة وينسب ذاتها إليها. ولكن، وفقا لحقائق التاريخ، من المستحيل أن يكون الرئيس ثائرا، لسبب بسيط وهو أن الدولة ليست “حالة”، وإنما آلة حكم وإدارة وتوازنات ووظائف. ولا يخفى على أحد أن الدولة أو الرئيس عندما يتمثل الحالة الثورية، فهذا فقط للمتاجرة بها، وعندها فقط تتحول إلى وظيفة هدفها مصادرة أى فعلمعرض على مستوى المجتمع.
ويمكن أن نحدد ثلاثة أسباب مباشرة لفشل الرئيس المرتقب، وهى أن يتصور ذاته مرشدا (سواء بالمعنى السياسى أو الدينى)، أو أن يتمثل حالة ثورية، أو أن يراهن على الديكتاتورية. وبالمقابل فإنعلى المجتمع (بمتشائميه ومتفائليه) التخلى عن على خيالاتهم وبالتالى توقعاتهم المرتبطة بهذه الخيالات، لأن إصلاح الأحوال عملية مركبة ولها شروطها الواقعية وليس الخيالية. إن أفول مشروع الإسلام السياسى كان من أسبابه إنه إرتكز على خيالات سياسية ودينية. ولو قُدر لأكثر الثوريين ثورية أن يحكم لكان مصيره كمصير الإسلاميين، فالدولة حالة واقعية ولا يمكنها استيعاب الخيالات.ومع ذلك يحق للثورى أن يظل ثوريا، كما يمكن للرجعى أن يغرق فى رجعيته، ولكن ينبغى إدارك أن هذه الحالات ستكون دائما خارج نطاق الدولة، قد تؤثر فيها ولكن بكل تأكد لن تكون هى الدولة.