يكمن سر نجاح ثورة يناير2011فى تحويل ميدان التحرير إلى بوتقة للثقافة القومية المصرية طوال 18يومًا ، فرغم برد طوبة وعواصف أمشير أصبح الميدان هو “البيت المصري” الذي قاوم بالرقص والغناء والنكتة. نجحتْ الثورة بعد أنْ تحوّل الميدان إلى (قارة صغيرة) للدفء الإنساني. وبعد الحبس الاحتياطي للقتلة والمفسدين، تصاعدتْ الأصوات المطالبة بإعدامهم. ويتغافل أصحاب هذه الدعوة أنّ كثيرين تم إعدامهم ثم تبيّن براءتهم، كما أنّ (الإعدام) استخدم كثيرًا لأسباب سياسية كما حدث في إيران الخومينية والسودان وليبيا (عقوبة الإعدام ضد حقوق الإنسان – من مطبوعات منظمة العفو الدولية- عام 89 أكثر من صفحة) ومصر(مصطفى خميس ومحمد البقري شهداء كفر الدوار على أيدي ضباط يوليو52) وفى الولايات المتحد الأمريكية تم إعدام 23 إنسانًا في عام واحد ثم تبين براءتهم (المصدرالسابق- ص31) وكما أبدع شعبنا فى الفن (مجهول المؤلف) فلماذا لايكون الإبداع فى التشريع أيضًا ؟
الإعدام أم عودة الأموال المنهوبة ؟
أليس الإعدام مكافأة سخية للقاتل ؟ أليس هو الراحة الأبدية، عكس (السجن) الذي ينتقل إليه القاتل والفاسد من عيشة القصور ليعرف معنى النوم على (البرش) الذي نام عليه سارقو حبال الغسيل؟ أليس السجن هو(عذاب الضمير) كما يقول علماء علم النفس؟ لنتخيّل القتلة والذين أفسدوا واقعنا السياسي وهم يُعيدون (شريط) حياتهم ويتذكرون (حجم) الجرائم التي ارتكبوها في حق شعبنا. وهل الإعدام سيمنحنا فرصة استعادة الأموال المنهوبة ؟ لاشك أنّ عودة تلك الأموال مطلب شعبي لا خلاف عليه. فكيف يتم ذلك إذا تم الإعدام ؟ لذلك فإنني أميل إلى رأى بعض القانونيين الذين رأوا أنّ السجن هو الوسيلة الفعالة للضغط على الجاني (سيكولوجيًا) للكشف عن البنوك وأرقامه السرية واستخدام بصمة الصوت إلخ . والسجن الذي أقصده هو سجن (الغلابة) من أبناء شعبنا الذين تُجبرهم الظروف على اختلاس بضعة جنيهات أو القتل في مشاجرة بسبب رغيف عيش إلخ أقصد السجن الذي ينام فيه المسجون على الأرض أو على سرير حديد من
دورين وأحيانا من ثلاثة أدوار. ويأكل من طعام السجن (الفول بسوسه إلخ) أما السجن (سبع نجوم) الذي يعيش فيه الفاسدون من عصابة مبارك فلن يؤدى إلى النتيجة المرجوة (أي عامل الضغط النفسي) لاستعادة الأموال المنهوبة. سجن (السبع نجوم) يعطى المجرمين الإحساس بالعظمة وأنهم فوق القانون وأنّ المسئولين يُساندونهم ، والدليل هذه المعاملة الخاصة التي لا ينالها إلاّ أصحاب النفوذ. ولذلك يُسيطر عليهم إحساس عميق بالإفراج عنهم أو صدور أحكام (مخففة) وبالتالي لا يمكن أنْ يتنازلوا عن الأموال التي سرقوها من شعبنا ولن يُدلوا بحساباتهم السرية في بنوك أوروبا وأمريكا .
في الحضارة المصرية أبدع جدودنا عقوبة على القاتل أشد قسوة من الإعدام، إذْ نصّتْ العقوبة على القاتل أنْ يحتضن جثة القتيل لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال وتحت إشراف حراسة لضمان تنفيذ الحكم (ول ديورانت- قصة الحضارة- ج1ص98) وعندما انتصرتْ الثورة الصينية عام 1949كانت العقوبة التي فرضها الثوار على الامبراطور هي أنْ يتحول إلى (جنايني) وتقبّل الشعب الصيني هذا الحكم وتراجعتْ رغبة الانتقام لتُفسح المجال للبعد الحضاري، بعد أنْ تحوّل الامبراطور إلى عضو نافع يعمل بيديه، مثله مثل باقي أبناء الوطن.
ونظرًا لأنّ وظيفة (جنايني) لا يستحقها قتلة شعبنا أومن نهبوا المال العام، لذلك أقترح أنْ تكون العقوبة عليهم (بعد إدانتهم بواسطة جهات تحقيق قانونية ومحاكمة محايدة وعادلة) أنْ يتحوّلوا إلى عمال نظافة وعمال في مصلحة المجاري. وأعتقد أنّ هذه الوظائف (الشريفة) هي (المطهر) الحقيقي الذي يُزيل (جراثيم) النفس البشرية من صدور كل من أجرم في حق شعبنا، وفى نفس الوقت هي عبرة لكل صاحب نفوذ سياسي أو اقتصادي، يُفكر في توظيف جراثيمه العقلية والنفسية ضد شعبنا. عبرة تقول بكل وضوح : إنّ ثورة يناير2011خلقتْ مجتمعًا جديدًا ، لا فرق فيه بين مواطن ومواطن إلاّ بعمله وليس بمنصبه أو ديانته. وانتهاء عهد النظام الذي يتبنى نهج عصابات المافيا العالمية. وانتهاء منظومة (سادة وعبيد) كما قال مدير أمن البحيرة وهو يُصدر تعليماته لمرؤوسيه (في شريط فيديو مصور ومنشور على موقع جريدة البديل) حيث قال لمن يُنفذون تعليماته ((مخطط السيطرة على الحكم لم يكتمل.. وإحنا أسيادهم.. واللي يمد إيده على سيده ح نضربه بالجزمة ونقطعها.. ومافيش أى *** يقدر يقرّب منكم)) (صحيفة الأخبار1/3/2011 ص4)وقتها طالبتُ من النائب العام تحريك الدعوى الجنائية ضد هذا الضابط، لأنه إذا كان من يسب فردًا واحدًا تُقام ضده دعوى سب وقذف، فما بالنا بشخص يسب شعبًا بأكمله بل ويزدريه ويعتبر شعبنا من (العبيد) وطبعًا لم يتحرك النائب العام، ولا تحركت منظمات حقوق الإنسان. هذا الضابط يجب أنْ تكون عقوبته تحويله إلى مصلحة المجارى مع القتلة والمفسدين. أرجو أنْ يُناقش الرأي العام اقتراحي، ليكون إضافة لثورة شعبنا ، فتعلم الشعوب الحرة أنّ شعبنا المصري عندما رفع شعار(سلميه.. سلميه) لم يكن مبدعًا فقط في تسطير حروف ثورة، كان أحد طرفيها يملك كل أدوات القمع الإعلامية والتعليمية والبوليسية ، بينما الطرف الآخر كان سلاحه الوحيد (أناشيد الحرية) لولادة مصر جديدة، يختفي منها كل أشكال التمييز(الديني والطبقي) لم يكن شعبُنا مبدعًا فقط في ثورته وإنما أيضًا مبتكرًا لأشكال من العقوبات، تنزع رغبة التشفي اللاإنسانية من جهة وتُحقق مبدأ القصاص العادل من جهة أخرى. فهل يرتفع المشرع إلى مستوى تجليات شعبنا في الإبداع، فينتقل من مرحلة العقوبات البدينة والمقيدة للحرية، إلى مرحلة التطهر بالعمل؟