“هبت من
نومها مذعورة، فولت بقايا الليل الراقدة على جفنيها هاربة من النافذة المفتوحة على
خيوط رمادية، لفجر يأتى على مهل. وارتسمت هناك فى البعيد الأسود ألسنة من نار
وهالات من نور، تابعتها العجوز بعينين زائغتين فى خوف ولهفة، دون أن تدرى إن كانت
لا تزال تصارع الكابوس الذى باغت نومها اللين، أم تعيش لحظة يقظة قاسية، لم تمر
يوما بخاطرها” .
هكذا بدأ
الكاتب الصحفى الدكتور عمار على حسن فصول روايته ” زهر الخريف ” التى أصدرتها
دار نشر ” الدار ” ليظهر لنا منذ البداية أن هذه القرية المنسية
المترامية فى أطراف المنيا تعانى من لصوص الليل الذى لم يتصد لهم سوى والد
ميخائيل، ووالد على، أى والد بطلان الرواية التى نسجت خيوطها من خلال أحداث حقيقية
حدثت فى المنيا أثناء حرب الاستنزاف أى فى الفترة الواقعة ما بين نكسة يونيو 1967
وانتصار أكتوبر 1973 ، مضيفا إليها العديد من الأحداث والشخصيات الثانوية، لكى يجسد
من خلال هذا العمل الأدبى الممتع صورة حية للوحدة الوطنية، والتسامح، والتعايش
السلمى، وقبول الآخر، بعيدا عن نفق الاحتقانات الطائفية المظلم الذى تنجرف إليه
البلاد .
وتدور الرواية
حول بطلين هما شابان مصريان أحدهما مسلم وهو” على عبد القادر إسماعيل” والآخر
مسيحى وهو “ميخائيل ونيس سمعان “، وهذان الشابان مثل مئات من الشباب
الذى عاشوا فى قرى صغيرة منسية يلفها الصمت الحزين، ولأن الطيور على أشكالها تقع
كما يقولون، فقد عرفت الصداقة قلب هذان الشابان اللذان جمعهما حب البطولة والكفاح
لحماية قريتهم الطيبة من عصابات الليل، وكأن القدر كان يعدهما لتحقيق بطولة أكبر
وهى الاشتراك فى حرب أكتوبر 1973 للزود عن بلادهم وحمايتها من كل معتد، فلم يتردد أحد
منهما فى تلبية النداء، ورحلا سويا وهما يحلمان بالعودة برايات النصر خفاقة، إلا أن
حلمهما لم يتحقق، فقد روت دماء ميخائيل أرض مصر لكى تنبت زهر الحرية والكرامة
بانتصار أكتوبر، أما ” على ” فقد ضاع فى الصحراء الواسعة ولم يجد البحث
عنه إلى أن تكشف لنا الرواية فى نهايتها من خلال أحد الجنود زملاء على أنه مات
محترقا فى إحدى الطائرات فنراه يقول : “ كان زميلى فى سلاح المظلات، وكنا فى مهمة
وراء خطوط العدو، قفز بعضنا من الطائرة، وقبل أن يلحق بنا الآخرون، انطلق صاروخ
فأصاب خزان الوقود، فاشتعلت فيها النار، وكان على لا يزال فى الداخل، فقفز لكن
النار مسكت بأطراف المظلة، ثم فى جسده، وقبل أن يصل إلى الأرض كان قد أصبح جثة
متفحمة. الباقون لم يتمكنوا من الخروج فانصهر لحمهم وعظمهم مع حديد الطائرة “
.
نداء الواجب والوطن، إلا أنه لم
يعد، ومع هذا لم تفقد وفاء الأمل فى رجوعه وهى تنتظره فى شباكها حالمة باليوم الذى
يخترق فيه جسده أستار الظلام المسدلة على قلبها، غير عابئة بالمشيب الذى يدب فى
شعر رأسها مع مرور السنين، وهى تنتظر بجوار صديقاتها جورجيت حبيبة الشهيد ميخائيل،
الذى أخذت تواسيها وتبث فيها الأمل برجوع زوجها ” على ” لتتغلب على ألم
الانتظار الموحش، وهنا يظهر لنا الكاتب كم الصداقة والمحبة التى جمعت بين الفتاتين
.
على بعد عشرة كيلومترات
بالضبط من بيتيهما، كان على وميخائيل يضحكان ما وسعهما، على مقهى بشارع الحسينى الذى
يشق مدينة المنيا نصفين، يدخنان ويحتسيان الشاى الثقيل الأسود، ويطلقان نكاتهما فى
جمع من الصحاب، فترتج الأجساد الفتية، وتنفرج الشفاه عن أسنان قوية، بيضاء وأخرى
مائلة للصفرة وثالثة أكل السوس بعض أطرافها … “ وفى
مقطع آخر من الرواية يصور مدى القرب والحميمية بين الصديقين والذكريات الطويلة
التى تدل على انصهار روحهما فى بوتقة المحبة التى لا تعرف تمييز أو تعصب فنراه
يقول : “ويصور الكاتب كيف أحضر نصر أكتوبر الأمان
إلى القرية فى نفس الوقت الذى ذابت فيه قلب أم هؤلاء الصديقين فى انتظار عودتهما
فنراه يقول : ” فى أيام الحرب وما بعدها، اختفى اللصوص تماما. ذابوا فى فرحة
النصر، وعاشت القرية ليال من الأمن والسكينة. وصفا الليل رائقا، لا يعكره طلق نارى
أو صرخة مستغيث. الصوت الوحيد الذى كان يسرى فى شرايين العتمة، ويصل إلى قلب كل
بيت، كان صوتا أم على وأم ميخائيل. بلا ترتيب تجلسان على عتبتى داريهما، تنتظران
أن يهل الغائبان من عمق الظلام. لكن الليالى توالت ثقيلة، وقذفت مع تقدمها البطئ
القاسى جمرات من نار فى قلبيهما، فسخنت رأساهما المعذبتان بالوحشة، وسحت الدموع
على الخدود حارة غزيرة”.
بالذكر أن الكاتب الدكتور عمار على حسن حاصل على الدكتوراه من كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية، وقد صدر له العديد من الأعمال الإبداعية منها روايتان هما
“حكاية شمردل” و”جدران المدى”، هذا بالإضافة إلى مجموعتين
قصصيتين هما “عرب العطيات” و”أحلام منسية “، كما صدر له
العديد من الكتب الأخرى مثل أمة فى أزمة: من أمراض العرب السياسية فى الفكر
والحركة، حناجر وخناجر: دراسات حول الدين والسياسة والتعليم فى مصر .