عندما بكى لبنان زمن الفن الجميل
“هيدى الأشخاص يلى عم برحوا لا يعوضوا أبداً بس راح يبقوا. يعنى فلتهم (رحيلهم) بالجسد راح تبقى موجودة بالوجدان وبأعمالهم. هكذا قال المغنى اللبنانى ” نقولا الأسطا ” عند وداع الشاعر اللبنانى الكبير سعيد عقل (4 يوليو 1912 -28 نوفمبر 2014 ) الذى رحل بعد يومين فقط من رحيل الفنانة الكبيرة صباح ، لقد ودعت لبنان يومى 26 و28 نوفمبر الماضى قامتين عظيمتين فى الأدب والغناء ..
رحل سعيد عقل.صاحب المأساة الشعرية وأبرز الشعراء العرب المعاصرين عن عمر ناهز ال (102) عام ..سنوات عديدة مليئة بالآمال والآلام والحب والشقاء والنجاح والفشل
ولد عقل فى الرابع من يوليو 1912 وعمل فى التعليم والصحافة ولقب بالشاعر الصغير لأنه كان شاعرا منذ طفولته كتب الشعر والنثر. .
وقد لقب بالشاعر الصغير نسبة إلى أنه كان شاعرا منذ طفولته وقد تميز شعره بالتجديد. بدأ دراسته فى مدرسة الإخوة المريِّـميين فى زحله ،حتّى أتمَّ المرحلة الثانوية، وكان يعتزم على أن يلتحق بكلية الهندسة، إلاّ انَّه وهو فى الخامسة عشرة من عمره واجه والده ازمة مالية كبيرة، فاضطرَّ سعيد عقل أن يترك المدرسة ليتحمّل مسؤولية ضخمة وأعباء أسرته، فعمل فى الصحافة فى زحله، لكنّه استقر فى بيروت بالثلاثينَّيات
وعبر عقيل من خلال كتابته عن وجهة نظره بكل صراحة وجرأة من خلال صحف عديدة منها “البرق، المعرض، لسان الحال، الجريدة”، ومجلَّة الصَّيّاد. التحق بعد ذلك بمدرسة الآداب العليا، كما درّس تاريخ الفكر اللُّبنانى فى جامعة الرُّوح القُدُس وألقى دروساً لاهوتيَّةً فى معهد اللاّهوت فى مار انطونيوس الأشرفية، وكان قد قرأ روائع التُّراث العالمى شعراًُ ونثراً، فلسفةً وعلماً وفناً ولاهوتاً فغدا طليعة المثقَّفين فى هذا الشرق، وتعمّق فى اللاّهوت المسيحيى حتّى اصبحَ فيه مرجعاً. وأخذ عن المسيحيّة فى جملة ما اخذ، المحبّة والفرح، والثَّورة أوانَ تقتضى الحال ثورةً تكون وسيلة للسَّلام.
كما شُغِف بالنَّزعة المثاليّة والرُّوح الترسّلى وانتدب نفسه شأن الكبار فى الدنيا لمهّامَّ جُلّى، فأنشَأ سنة 1962 جائزة شعريّة من ماله الخاص قَدْرُها ألفُ ليرة لبنانية تمنح لأفضل صاحب أثر يزيد لبنان والعالم حُبّاً وجمالاً. فى الثَّلاثينيَّات (1935) أطلع سعيد عقل “بنت يَفتاح” المأساة الشَّعرية، وهى أولى مسرحيات لبنان الكلاسيكيّة ذات المستوى، وقد نالت يومذاك جائزة “الجامعة الأدبية” وفى الثَّلاثينيَّات ايضاً انفجرت قصيدته “فخر الدين” المطوَّلة التاريخية الوطنيّة فبرهنت أنَّ الشِعر يقدر ان يؤرّخ ويَظلَّ شعراً مُضيئاً ،وأن يسرد قِصّة، متقيّداً بالأصول ويظلّ مؤثراً. وفى سنة 1944 اطلت مسرحيّة قدموس، عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريّة رائعة، وبدأ سعيد عقل يكون مهندس النفس فى الأمّة اللبنانية، انّ قدموس، لون جديد من الملاحم التلا تهزّ ضمير الأمّة وتشكّ لبنان على عرش من عروش الشّعر فى العالم، وإن يكن سعيد عقل قد سمّاها مأساة.
سنة 1960 صدر كتاب “كأس الخمر” وهو يتضمّن مقدّمات وضعها سعيد عقل لكتب منوّعة، وشهد بها لشعراء وناثرين، مبرزاً مواهبهم، مقيّماً انتاجهم، وناهضاً بالنقد الأدبى، وبمقدمّات الكتب إلى مستوى نادر فى النّثر الحديث. وبعدها بعام صدر له كتاب “يارا” وهو شعر حبّ باللغة اللبنانيَّة، قصائد تجمع بين البساطة ومُناخ الخمائل، تُكوكب البال وتسكُبُ خمراً جديدة فى كؤوس من زنابق. أما سنة 1974 صدر كتاب “كما الأعمدة” وهو بعلبكّ الشعر وقد سجلت فيه روعة العمار، ودقّة الجمع بين الفخامة والغِوى؛ وإنَّك لتشهد فى هذا الكتاب تخليداً لكل شاعر تكَّم عنه سعيد عقل، وفى هذه القصائد يتحدّى سعيد عقل نفسه مرّة بعد مرةٍ فيعلو على ذاته بخيال يسابق خياله ويمزج بين التراكيب الفصحية وتراكيب اللغة اللبنانية احياناً. مما يقرِّب شعره من الحياة ويمنحه نكهة جمالية فريدة. والأعجب فى هذا الكتاب أنَّه يرفع المناسبات العاديّة إلى سماء البال وأجواء الشعر اللبنانى.
ومن كتبه كتاب “خماسيَّات” وهو مجموعة أشعار باللغة اللبنانية والحرف اللبنانى، صدر سنة 1978، وكتاب خماسيّات الصبا باللغة الفصحى، وقد صدر سنة 1992. وهذه الخماسيّات باللغتين اللبنانيّة والفُصحى تمثّل ذُروة الكثافة فى المضمون، كما تمثّل التفرُّد العالمى فى الشّكل الشِعرى الذى يَحبِسُ جزءاً من عمر فى عبارات لا طويلة ولا قصيرة. وإنّما هى بمعدّل ما يتوقَّعها السَّمع تنتهى فعلاً ويرتاح الشّاعر حين تنفجر.
و قد سجى جثمان عقل يوم الاثنين (الأول من ديسمبر كانون الأول ) فى إحدى قاعات جامعة سيدة اللويزة وأحاط به مئات الأساتذة والطلاب والأقارب مطوقين أعناقهم بشالات حمراء فى إشارة إلى ربطة العنق الحمراء التى لم تكن تفارق عنق الشاعر الراحل.
أما الجنازة فقد اقيمت يوم الثلاثاء من جامعة سيدوة اللويزة إلى وسط بيروت حيث أقيمت الصلاة عليه بكنيسة مار جاورجيوس قبل أن يوارى الثرى بمسقط رأسه فى زحلة بالبقاع. وكان بين المشيعين الرئيسان اللبنانيان السابقان أمين الجميل وميشال سليمان والسياسى اللبنانى ميشيل عون والمغنية الكبيرة ماجدة الرومى. ، شيع جثمان عقل داخل نعش منحوت من صخر جبال لبنان على شكل ناووس فينيقى غطاؤه من خشب الأرز ومحفورة عليه أحرف اسم الراحل على شكل زهرة. وكان المثال اللبنانى رودى رحمة قد عكف على نحت النعش قبل عام.
جدير بالذكر أن جنازة الشاعر الكبير قد أرجئت إلى الثلاثاء إفساحا للمجال لتشييع المطربة صباح يوم الأحد (30 نوفمبر تشرين الثانى). وقال المغنى اللبنانى نقولا الأسطا “هيدى الأشخاص يلى عم برحوا لا يعوضوا أبداً بس راح يبقوا. يعنى فلتهم (رحيلهم) بالجسد راح تبقى موجودة بالوجدان وبأعمالهم. بيسعدنى إنه أنا عشت بعصر سعيد عقل والكبار يلى مرقوا. وأكيد يمكن راح نودع كل من سبقنا. نحن علينا الأمانة أنه أهم شى نقدر نحافظ على ها المستوى هيدا.. أن كان بفكر أولادنا وإن كان بمسلكيتنا نحن. الله يرحمهم جميعاً.. يرحم أستاذ سعيد .” تميزت أشعار سعيد عقل بالرمزية والفرح بعيدا عن التباكى وهو الذى قال يوما “فى شعرى شىء من الرمزية لكن شعرى أكبر من ذلك يضم كل أنواع الشعر فى العالم”
الصبوحة : سوف نشتاق إليك كثيراً
الصبوحة سوف نشتاق إليك كثيراً…أنت تركتني، ونحن لن نتركك أبداً
هذه هى كلمات الفنانة جورجيت صايغ التي تدين لـ “الشحرورة” بدخولها الفن وعملها مع الأخوين رحباني، عندما غنت لها “جيب المجوز يا عبّود”،
ونحن جميعا نردد مع الفنانة جورجيت صايغ هذه الكلمات
ويقول الكاتب البنانى روبير أبو ديب فى كتابه امبراطورة الاغنية : الغناء عند الامبراطورة صباح لم يعد مسالة اطلالة واشراقة على جمهور كبير منتشر في لبنان والبلدان العربية والأوروبية، تطربه بصوتها الساحر الذي يتلاعب بأوتار القلوب. انها تحول على مدى الأعوام الى شيء، لا تعرف هي نفسها سره، امتزج بدمها، فصارت اذا تخلت عنه تشعر كأنها تخلت عن الروح. وتجدر الاشارة الى أن الامبراطورة صباح على مدى ستين سنة تعذبت وهي تشق طريقها الفني وحدها. أما نجاحها فقد تقاسمت ثماره مع كل من أحبها وشاطرها جهادها. كما أن اتصالاتها وعلاقاتها، التي أقامتها مع الناس، فقد حبكتها ووطدتها بمفردها أيضاً، وهي العصامية الكبيرة.
ان ايمانها بالله كبير، وتؤدي طقوسه على طريقتها. كما تؤمن، وبيقين مطلق، بأنها لن تعيش سوى مرة واحدة، لذلك تراها، رغم ما يعكر حياتها من هموم، فرحة لا سيما اذا قاسمها من هم حولها سعادتها وشهرتها ومكاسبها.
و الشحرورة التى بدأت مسيرتها الفنية فى المنتصف الثانى من القرن الماضى كمطربة قبل أن تحترف التمثيل، شاركت فى عدد كبير من الأفلام المصرية، لاسيما بعد أن اتخذت القاهرة مقرا لها حيث حصلت على الجنسية المصرية.ولصباح 85 فيلم بين مصري ولبناني وسوري
الشحرورة صباح فى تاريخ الغناء العربي
دخلت الشحرورة صباح تاريخ الغناء العربي (كما يقول الياس سحاب فى مجلة دبي الثقافية ) فصباح (اسمها الأصلي جانيت فغالي)، تنتمى إلى نمطين من الفنانين العرب، الذين عرفوا درجة عالية من الشهرة والنجاح في القرن العشرين. النمط الأول، هو أنها واحدة من مجموعة من الفنانين اللبنانيين، الذين عبروا سلم المجد في القاهرة درجة درجة، على موجة اندفاعهم مع موسم الهجرة الفنية من بيروت إلى القاهرة، في النصف الأول والنصف الثاني من عقد الأربعينيات. ومن الأسماء اللامعة في هذه المجموعة: نور الهدى، صباح، سعاد محمد، نجاح سلام، وديع الصافي. وكانت قد سبقت كل هؤلاء في موسم الهجرة إلى القاهرة المطربة الشهيرة لور دكاش.
فقد اندمجت في أجواء نجاحها المصري، حتى صارت تقضي أوقاتها بين القاهرة وبيروت. ورغم أن هذا التواصل انقطع في وقت لاحق بعد تقدم صباح في السن، واعتزالها التمثيل والغناء، فقررت تمضية سنواتها الأخيرة في وطنها الأول لبنان، فإن علاقتها بالجمهور المصري لم تنقطع حتى يومنا هذا. بدليل أن المسلسل الاخير الذي يروي قصة حياتها بعنوان الشحرورة، قد لقي نجاحه الأكبر لدى جماهير المشاهدين المصريين،
والفنانة الكبيرة صباح، من فئة الفنانات اللواتي امتهنّ فن الغناء وفن التمثيل بالدرجة نفسها، مثل نور الهدى وليلى مراد وشادية، حتى ليبدو موقعهن لدى الجمهور محيراً بين الاثنين: هل اكتسبن الجماهيرية لسبب الإبداع في الغناء، أم النجاح في التمثيل. بالنسبة لصباح، يمكن القول بعد أن وصلت مرحلة الاعتزال الفني، أن شهرتها الطاغية كممثلة خفيفة الظل، شاركت بأفلام جماهيرية شهيرة مع المطربين سعد عبد الوهاب ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، قد طغى على موقعها كمطربة كبيرة لها إسهامات جدية في نماذج شديدة النجاح من الأغنيات اللبنانية والمصرية، على حد سواء.
بدأت صباح تتلقى أصول الغناء اللبناني الفولكلوري الأصيل، على يدي عمها أسعد الفغالي (شحرور الوادي)، أحد أشهر الزجالين اللبنانيين التاريخيين. ومعروف أن فن الزجل، في لبنان بالذات، لا يعتمد فقط على سرعة البديهة، لكنه يعتمد بشدة على أن يقدم على شكل غناء مرتجل، بناء على قوالب فنية معروفة، تحدد الشكل الشعري والشكل الغنائي. وقد ألمح المسلسل بسرعة إلى علاقتها الإنسانية بعمها أسعد الفغالي (شحرور الوادي) لكنه لم يركز على العلاقة الفنية بينهما، وكانت هي الأهم برأيي.
بعد ذلك، راحت المغنية الصغيرة (جانيت) ترتشف نماذج الغناء الجميل من خلال المذياع، فتحفظ أغنيات ليلى مراد وعبد الوهاب وفريد الأطرش، وهكذا، فقد حددت الينابيع التي رشفت منها صباح أصول الغناء، وهي طفلة صغيرة، حددت سلفاً أن تكون علاقتها على قدم المساواة بالغناء اللبناني، والغناء المصري. فجاءت حياتها الفنية بعد ذلك، تؤكد أنها لعبت دوراً بارزاً في نهضة الأغنية اللبنانية المعاصرة، كما في نهضة الأغنية السينمائية المصرية.
ولعل أغزر عطاء لصباح في مجال الأغنية اللبنانية، جاء عبر مشاركتها المطرب الكبير وديع الصافي الغناء، في أكثر من عمل مشترك
ويضيف ظهرت لصباح في مرحلتها المصرية، أربع أغنيات عرفت انتشاراً جماهيرياً مدهشاً، هي على التوالي: «بين الأهلي والزمالك» (لحن محمد عبد الوهاب) و«حبيبة أمها» (ألحان فريد الأطرش) «الراجل دا حا يجنني» (ألحان محمد الموجي) التي تحكي تململ الزوجة من شراهة زوجها على مائدة الإفطار في شهر رمضان الكريم، وكل هذه الأغنيات من كلمات الشاعر حسين السيد. أما الأغنية الرابعة ذائعة الصيت فهي من ألحان محمد عبد الوهاب (سنة حلوة يا جميل) على كلمات للشاعر اللبناني محمد علي فتوح.
إن ما قدمته صباح من مساهمات في أغنياتها اللبنانية، ثم أغنياتها المصرية، دخل تاريخ الغناء العربي الجميل في البلدين العربيين، بدرجة تستحق منا مزيداً من العمق في بحث نتاج الموهبة الغنائية لصباح، أكثر من تلهينا بخفة ظلها كممثلة أو أناقتها كسيدة مجتمع