في بداية صوم الميلاد واقتراب شهر كيهك نتذكر معاني روحية عميقة، وفيه نعترف بالشكر لإلهنا الحنون، الذي أبدل الحقبة الطويلة المليئة بالشقاء قبل ميلاد رب المجد وقد كان محكوم علينا بالاستعباد للشيطان والخطية ومصيرنا كان الجحيم؛ ولكن من رحمة الله أنه تجسد من القديسة الطاهرة العذراء مريم في ملء الزمان (غل 4 :4 ) وبدأت رحلة الفداء والخلاص التي حولت هذا الشقاء إلى خلاص أبدي وخلود وفرح دائم، واعترافاً بحبنا وطاعتنا وتبعيتنا لهذا المولود الإلهي الذي سُمي يسوع أي مخلص نقدم تسابيح هذا الصوم الذي يحتضن داخله شهر كيهك المبارك، كاستعداد لتقبل كلمة الله المتجسد وتهيئة النفس بالتوبة والعمل بوصايا الإنجيل، لنكون مستحقين لسماع بشرى الملائكة “ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب” (لو 2 : 11).
وبصورة عامة فإن ألحان كيهك تتميز بالإيقاع الواضح،وتتميز بروح النشاط والترقب والتأهب لحدث الميلاد المفرح، ونجد فيها إحساس الطفل المتلهف لإنتظار من يُحبه وهو يتبع بروح الطفولة طفل المزود المُخَلِص الرقيق يقفز فرحاً بهذه الألحان الإيقاعية النشيطة،وينطلق في موكب الملك المنتظر المتواضع الذي قال:”تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحةً لنفوسكم” (مت 11 : 29 )؛ ولذلك لا يوجد في ألحانه طابع الحزن سواء كانت هذه الألحان سريعة وبسيطة تقال بأسلوب الدمج، أو كانت ألحاناً طويلة مثل لحن “تين أويه إنسوك” الذي يقال بأسلوب “الميليسما”الإطناب النغمي.
ولحن “تين أويه إنسوك” هو لحن من مجموعة ألحان عديدة تتكلم عن حدث الثلاثة فتية القديسين في أتون النار، حين تسبح به الكنيسة تُعَبِر عن وجودها في الزمن الحاضر بكل آلامه وأحزانه، وفي نفس الوقت تشعر بوجودها في الأبدية السعيدة، فبالرغم من وجودها وسط آتون نار العالم، ولكنها محفوظة بعناية ابن الله الذي سيُعِد لها مكاناً في السماويات حيث تكون معه إلى الأبد.
ولحن “تين أويه إنسوك” الكيهكي هو أحد خمسة ألحان تقال في خمس مناسبات ( الفرايحي والصيامي والشعانيني والسنوي والكيهكي)، وتضم هذه المجموعة كنوزاً موسيقية قيمة من الألحان المعبرة عن هذه المناسبات، وربطها بكلمات هذا اللحن: “نتبعك بكل قلوبنا ونخافك، ونطلب وجهك يا الله لا تخزنا، بل إصنع معنا بحسب دعتك وكثرة رحمتك يارب أعنا، فلتصعد صلاتُنا أمامَك يا سيدَنا مثل مُحرَقاتِ كِباشٍ وعُجولٍسِمان، لاتنسى العهد الذي قطعتَه مع آبائنا إبراهيم واسحق ويعقوب إسرائيل قديسيك، باركوا الرب يا جميع الشعوب والقبائل ولغات الألسن، سبحوه ومجدوه وزيدوه علواً إلى الأبد، أطلبوا من الرب عنا أيها الثلاثة فتية القديسين سيدراك وميساك وعبدناغو، ليغفر لنا خطايانا”.
أما عن موسيقى هذا اللحن البديع الذي يصاحبه الناقوس والمثلث فهو مَلحمة موسيقية فهو يتكون من أربعة أرباع كل رُبع له لحن مختلف ثم يأتي الرُبعان الأخيران بلحن خامس.
الرُبع الأول: تمتزج ألحانه بلمحاتٍ من “لحن البركة”،الذي يتكلم عن السجود لله المثلث الأقانيم، فيعطي المصلي إحساس بالرهبة والقداسة أن الذي نتبعه هو الله القدوس المهوب، ثم يأخذ اللحن مَساره ممتزجاً بلمحات أخرى من لحن “شيرى نى ماريا” التسبحة،الذي نتكلم فيه عن العذراء الحمامة الحسنة التي قالت للملاك: “ليكن لي كقولك”، وأطاعت الله وصارت مثالاً لكل من يتبع الله بأمانة من كل قلبه، وليس غريباً وجود لمحات من هذا اللحن في هذا الشهر المريمي، ونلاحظ أيضاً تركيزه على كلمتين (تين ايرهوتي) تعني “المهابة”، (ايمبير تي شيبي) معناها “لا تُخزينا”، فيها يهبط اللحن ويقف وتصمت آلات الايقاع خضوعاً ومخافةً وتوسلاً لله كي لا يخزينا.
الرُبع الثاني: تمتزج ألحانه بنغمات من لحن “فاي إيطاف إنف” الذي يذكرنا بالصليب الذي كان سبب لخلاصنا بسبب رحمة الله الكثيرة، والتي تؤكدها كلمات هذا الرُبع كأننا نقول انت هو الإله المَهوب كان بمقدورك أن تحاكمَنا بعدلك؛ ولكن لأجل وداعتك ورحمتك الكثيرة أعطيتنا الخلاص بالصليب، ونجد في هذا الرُبع التأكيد على الكلمات (أري أوي نيمان) تعني”إصنع معنا”، (كاتا إبأشاي) تعني “ككثرة” ليؤكد على معنى أنه يعاملنا بكثرة رحمته.
الربع الثالث: فله إحساس آخر ونغماته بصورة عامة متقاربة لبعضها البعض، يعبر عن تجهيز وإعداد الصلاة كأنها ذبيحة معدة على مذبح التسبيح تصعد كمُحرَقة أمام عرش الله.
الربع الرابع: الذي به نوع من الجدية والتحفيز لله أن يذكر عهده مع آبائنا إبراهيم واسحق، وأننا نتمسك بقوة بالبركة التي مُنِحَت ليعقوب عندما قال: “لن أطلقكإن لم تباركني”.
وعندما نطمئن الى تجديد العهد بيننا وبين الله، نتقدم بجرأة بنغمات سريعة مبتهجة نشيطة إيقاعية في آخر ربعين: نتشارك فيهما مع جميع الشعوب والقبائل لتسبيح وتمجيد الله إلى الأبد، ونختم هذا اللحن الجميل بطلب شفاعة الثلاثة فتية القديسين عنا ليغفر لنا الله خطايانا.
إن هذا اللحن الرائع أعطانا مثالاً للغنى الموسيقي في ألحاننا القبطية، وبعمق حكمتها في معالجة كلمات هذا اللحن، واستعارة أفكاراً من ألحان أخرى تخدم بها الفكرة الرئيسية، كما أن الكنيسة استطاعت بكلماتٍواحدة أن تُصيغ العديد من الألحان المختلفة لتعطي أحاسيس مختلفة للمناسبات الكنسية، وأعطتنا أيضاً فكرة عن أسلوب التلحين في العصر الذهبي، إن آباءالكنيسة الموسيقيين كانوا مدرسة في التلحين أتاحوالنا الغوص في أعماق ألحانها الموسيقية الروحية.