الفن الجميل كالبصمة، فهو شئ يمكن أن نميزه عندما نراه أو نسمعه، وكثيرة هي البصمات في تاريخ الفن، وتعد شريفة فاضل “أو فوقية محمود أحمد ندا”، واحدة من رموز الغناء فى مصر التى كان لها بصمتها الخاصة، بصمة الصوت وبصمة الاختيارات. فهي ذلك الصوت الذي اتسم بالقوة والدفء، وهي التي اختارت من الكلمات و الألحان، أو أُختيرت لها، لتعبر عن روح مصرية شعبية أصيلة. فمن أغانيها ما صار مطبوعا في الوعي والذاكرة، فهي موال “الليل” و”الصبر”، وهي الصوت الدافئ والملئ بالشجن الذى نودع به شهر رمضان “والله لسه بدري يا شهر الصيام”. وعلى ما يبدو، أن حياتها كانت قصة من التحديات والمتناقضات، فهي التي نشأت في وسط عائلي مترف، فكما تقول في حوار معها أن أمها انفصلت عن أبيها وتزوجت من أحد أثرياء مصر الكبار وهو إبراهيم الفلكي والذي أطلق اسمه على شارع وميدان الفلكي الشهير بوسط القاهرة، ومعه عاشت حياة مترفة وشهدت صالونات الفن والأدب، ومع ذلك فقد اشتهرت بأغانيها الشعبية، وكأنها إبنة حى شعبي بسيط، وهي “أم البطل” التي اتهمت بإدارة بيتها كوكر “للقمار” وهي التي التهمة التي اعتبرتها مكيدة وقد برأتها العدالة منها، وهي حفيدة القارئ الشيخ أحمد ندا أحد مشاهير قراءة القرآن الكريم وهي التي أسست أشهر الكازينوهات في مصر “كازينو الليل”. إنها شريفة فاضل الفنانة التى رفضت القيود الزواجية، فاختارت فنها وتحررت من غيرة زوجها الفنان سيد بدير.
ومع شريفة فاضل يمكن أنت نتحدث عن العديد من الأغاني الجميلة والمتنوعة الوطنية والدينية والعاطفية. ولكن ما أود الحديث عنه في هذا المقال هو جانب يتعلق بصورة المرأة كما عبرت عنها فى أغان تعد من أجمل الأغانى المصرية. أفترض بداية أن أغاني شريفة فاضل الأكثر شهرة عبرت عن هوية أنثوية مختلفة، ففيها قوة وتحدي وإنطلاق، على عكس الصورة النمطية للمرأة الضعيفة أو المنكسرة. فقد إلتقى صوت شريفة فاضل بكلمات مبدعين في الشعر الغنائي وهما محمد حمزة وحسين السيد، وبألحان المبدع منير مراد، لتعبر أغانيها عن هوية أنثوية قوية تتحدى التلاعب الذكوري، وهكذا كانت أغاني “حارة السقايين”، و”أنا قلبي بابه حنين” و “بالمعروف بالحنية”، وأغنية “قال يعني مش واخد باله”. وفي هذه الأغاني، يعلو صوت المرأة المتحكمة في المشاعر والعلاقات، المرأة التي المتطلعة للحب والحنان، ولكنها ترفض القسوة والتحكم والكذب والخيانة. فهى لا تشكو ولا تستميل، ولكن تكشف وتتحدى وتتفاوض. ففي أغنية “بالمعروف بالحنية” التي كتب كلماتها الشاعر الغنائي محمد حمزة، تختلط الشاعرية بالتحدي : “بالمعروف بالحنية تاخد عينيا… بالمعاندة بالأسية هتغلب فيا”. والموقف واضح وصريح :”أنا كده.. طبعي كده”، أو كما نقول بالعامية المصرية “إذا كان عاجبك”، ومع ذلك فإن باب التفاوض مفتوح: “آجى بالمعروف ما تجرب وإنت تشوف”، وهي هنا تضعالطرف الآخر “الرجل” في اختبار حسن نوايا.
أما حسين السيد، فإن كلماته لشريفة فاضل لها مذاق خاص سواء فى أغنية “فلاح”، و أغنية “أنا قلبى بابه حنين”، والتى ترسم بحفة دم صورة المرأة الشعبية الباحثة عن الحب والحذرة من مشاعرها: “أنا قلبي بابه حنين مفتوح للكلمة الحلوة. والكلمة ساعات بتدوب وتودي القلب في توكر .. والآخر جاتلنا فكرة وشاورت قلبي وشاورني .. غيرنا الباب والأوكرة وجيبنا لهم قفل مسوجر”. أما أغنية “حارة السقايين” فهى واحدة من أجمل الأغانى المصرية صوتا ولحنا وكلمات، فهى حالة مصرية خالصة، سواء الكلمات خفيفة الروح والمطعمة بالتعبيرات الشعبية وكأنها أمثال، واللحن الذى يتسم بقوة الإيقاع ليجعل الكلمات تتراقص.فهى أغنية إمرأة لا يرضيها “الحال المايل”، والعلاقات الرمادية: “ما تروحش تبيع المية فى حارة السقايين”، “ما فيناش حاورينى ياكيكا”، “لك ماضى كل سوابق”، “وإن كنت فاكرنى منهم ..روح اسأل قبله أنا مين”، “لا عمرى أحب الخاين ولا أحب الكدابين”. وبمناورة شاعرية جندرية تصبح الدموع والآهات من سمات التحايل الذكورى، وليس الإغراء الأنثوى: “بيقولوا إنك بتألف فى الليلة سبع غنوات .. والغنوه الواحده فى ليلة تلحنها سبع مرات.. وتروح تاني يوم وتقولها بحنان ودموع وآهات”.
إن أغانى شريفة فاضل جسدت وربما صنعت صورة “بنت البلد”، وهى الصورة التى تشكلت لتعكس مجموعة من السمات ومنها الجرأة والقوة والوضوح، بخلاف الصورة النمطية عن “الحريم” أوالمرأة الخجولة الطيعة والتى لا ترفع صوتها باعتبار أن صوت المرأة عورة. وعندما نستمع لصوت شريفة فاضل وهى تتغنى بهذه الكلمات، نجد أنفسنا أمام مشهد للذكورة والأنوثة مختلف عما هو شائع، أنوثة تبحث عن الحب والألفة ولكنها تقرر ما يجب وما لا يجب. أنوثة لا ترفض الذكورة ولا تسعى للسيطرة عليها أو تمثلها، وإنما تضع قواعد اللعبة. إنها شريفة فاضل الفنانة المصرية التى تركت بصمتها فى “الليل” و”الصبر” و”حارة السقايين”، وفى وداع “شهر الصيام”.