ألقى القمص يوسف تادرس الحومي، مدرس تاريخ الكنيسة وعلم المخطوطات بالمعاهد اللاهوتية وعضو اللجنة العلمية الاستشارية بمكتبة الإسكندرية، كلمة ضمن فاعليات يوم التراث القبطي السنوي الخامس والذي عقد ببيت السناري بحضور ممثلي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية، وعدد من الشخصيات العامة من رجال الآثار والسياحة وأساتذة الجامعات والباحثين في التراث والتاريخ والفنون والثقافة القبطية.
وفى بداية كلمتة ألقى القمص يوسف الحومى الضوء على أولاد العسال، بقوله أنهم أسرة قبطية من مصر، لمعت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي . ولم تشتهر أسرة من الكُتّاب في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل في كل الكنائس الشرق العربي بأسره، كما إشتهرت أسرة أولاد العسال، وتاريخها يعكس جزء كبير من تاريخ مصر عامة وبالأخص تاريخ الكنيسة القبطية الارثوذكسية بمصر، وما تركه أولاد العسال من مؤلفات أدبية يفوق ما نعرفه عن سيرتهم .
وتابع الحومي سرده بأن الجد الأكبر لهذه العائلة يُدعى أبي البشر يوحنا الكاتب المصري ومعروف بالعسال، ربما لأن تجارة العسل كانت احدي أعماله أو اعمال والده , وربما لنسبة أخرى .
وأبي البشر هي كُنيته , ويوحنا اسمه , والكاتب المصري صناعته , والعسال لقبه وشهرته . وقد أنجب أبوالبشر يوحنا ولد يدعى: أباسهل جرجس , وأباسهل جرجس أنجب ولد يدعى : أبا اسحق ابراهيم , وأبا اسحق ابراهيم أنجب : فخر الدولة أبا الفضائل أسعد , وهذا الأخير ولد ثلاثة من الكُتّاب اللامعين وهم :
1 – الشيخ الفاضل مؤتمن الدولة أبواسحق بن العسال , ونسشير إليه باسم : المؤتمن
2 – الشيخ الحكيم الأسعد أبوالفرج هبة الله بن العسال , وسنذكره باسم الأسعد
3 – الشيخ الفاضل الصفي أبوالفضائل الأمجد بن العسال , وسنشير إليه باسم : الصفي
ولهم أخ رابع هوالامجد بن العسال , ولكن ليس له كتابات أدبية ولا إنتاج علمي .
ووالدهم هو : ” فخر الدولة أبوالمفضل أسعد ” . ومن لقب “فخر الدولة” , نستنتج مكانته المرموقة ربما كان كاتبا في الدواوين , أو كان تاجراً كبيراً معروفاً في الأوساط .
و عن ثراء أسرة أولاد العسال أوضح القمص يوسف الحومى أن والدهم ” أبوالمفضل ” ( أو أبوالفضائل) كان غنياً جداً وكريماً في نفس الوقت وكان من الوجاهة والثراء والشهرة , لأن رسالة ابنه الصفي لأخيه المؤتمن عند وفاة زوجته تشير الي الأم أيضاً وانها كانت كريمة مع الخدم , فوجود الخدم يدل علي الثراء . وكان كريما مع الشعراء في عصره فيذكر ابن فضل الله العمري(المتوفي 1348م ) في كتابه : ” مسالك الأبصار ” شعراً يمدح فيه الشاعرسراج الدين الوراق , والدهم لأنه اصطحب معه الشاعر في زيارة لدير البغل بطره جنوب القاهرة و يُفهم من الشعر انه أجزل له العطاء لكرمه فقال فيه هذا الشعر :
وقد يروقك لفظي الحلو لاســـــــيما إذا لقيت بني العسال مداحــاً
القوم جادوا ولم أسأل , وهم منحوا وما غشيتهم والله ممتاحـــــاً
صحبتهم نحو دير البغل مطلبنـا صهبـاء جرت بطوق الليل فانزاحـا
أبا المفضل لم أبلغ مداك ولــــو طارحت في مذهب الشعرالطرماحا
وبما أنه كان كريما مع الشاعر , فبالأولى كان كريما مع الدير الذي ذهب اليه , وكانت له احساناته لفقراءه وخدامه ومبانيه وخدمته , ولكنه لم يذكرها عملا بمبدأ التقدمة في الخفاء .
ودير البغل المذكور يقع بجبل طره تحت الدير المعروف بدير القُصير وتقع اطلالهما فوق جبل طره جنوب القاهرة ولهما تاريخ طويل .
فيذكر ابن فضل الله العمري ان : ” دير البغل هو شمالي شعران (شهران/ المعصرة) وبناؤه مثل بنائه في لحف جبل المقطم وعليه نخل , وبه جمائع من الرهبان اليعاقبة (الاقباط) .. وسُمي بدير البغل لأنه كان به
بغل تستقي الماء , تعود هذا وألفه , وكانوا إذا أطلقوه أتى مورد الماء وهناك من يملأ عايه , فإذا حمله أتى الدير بالماء”
وفوق هذا الدير كان يقع دير القصير للرهبان الروم قال عنه الشابُشتي أمين خزانة الكتب بالدولة الفاطمية :
” دير القُصيروهذا الدير في أعلى الجبل على سطح قُلته .. وله بئر منقورة في الحجر يُستقى الماء له منها ,,
وهو مطل على القرية المعروفة بشهران وعلى الصحراء والبحر”
وهدم دير القصير في عهد الحاكم بأمر الله , يقول الانطاكي عن ذلك ” ورسم أيضاُ في يوم الثلاثاء في ثامن شهر رمضان سنة أربعمائة (25 ابريل 1010م ) بهدم دير القصير . وكان ديراً للروم الملكية في الجبل المقطم (جبل طره ,وأطلال الديرموجوده للآن) مبني علي قبر القديس ارسانيوس ونهب جميع مافيه
وكان أرسانيوس بطريرك الإسكندرية يومئذ مقيما متعبدا وأخرج عنه مع كل من كان يسكنه من الرهبان .. فهدم جميعها وخرب الديروكان للنصارى الملكية في ظاهره مقابر ومدافن لموتاهم ففتح الرعايا والعبيد جميعها ونبشوا من كان فيها وأخذوا أيضا توابيتهم وطرحوا أعضائهم وكان أمرا فظيعا لم يُشاهد مثله ولاجرى في السالف شبهه”
وكل الألقاب المقترنة باسمائهم هي من سلاطين الدولة الايوبية , فقد كانوا في خدمتها وعاشوا
في ظلالها .
بلدهم :
ولايُعرف بلدهم الأصلية , ولكن وجد في مقدمة المخطوط الذي يحتوي نسخه من كتاب : ” ترياق العقول في علم الأصول ” مايأتي : ” من قول الحبر اللبيب العالم كوكب أهل زمانه الزاهر الفائض منه جواهر الحكمة من ينبوع بحر علمه الزاخر قاطع حجج المعاندين بأحسن المقال وهو السيد الفاضل عرف بابن العسال سبط الاب المكرم الحسن الشيخوخة الاب بطرس المعروف بالسدمنتي ” أ.هـ فربما كان مسقط رأس جدهم الأول من بلدة ” سدمنت” بمحافظة بني سويف بصعيدمصر .
ويضيف القمص يوسف اللحومى عن وظائف اولاد العسال في الدولة الأيوبية
عاصر أولاد العسال عهد الدولة الأيوبية , التي يستمد اسمها من المؤسس الفعلي لها وهو أيوب والد صلاح الدين المتوفي سنة 1182م وهو من الأكراد السُنَة , وهذا تغيير من جهة المذهب الحاكم لأن الفاطميين كانوا من الشيعة والايوبيين من السُنّة . وإبتدأ حكم الأيوبيين بعد انتهاء الدولة الفاطمية سنة 566هـ / 1170م واستمر حكمهم حتي سنة 648 هـ /1250م تولى الحكم خلالها على مصر تسعة من الحكام أشهرهم الناصر صلاح الدين يوسف ( + 1169م) , والكامل محمد (+ 1218م )
يظهر من النعوت والصفات المرتبطة بأسمائهم أنها خلع خلعتها عليه الدولة نتيجة وظائفهم واجتهادهم في هذه الوظائف الخاصة بالدولة فأنعمت على الشيخ الحكيم الاسعد بلقب : أبوالفرج هبة الله , والشيخ الفاضل المؤتمن عرف بمؤتمن الدولة أبواسحق . والأخ الثالث وهو الشيخ الصفي عُرف بأبوالفضائل ماجد ( او الأمجد) , والأخ الأخير الأمجد
أما والدهم أبو الفضائل ( المفضل) فلقب بفخر الدولة , والجد الأكبر يوحنا عرف بأبي البشر الكاتب المصري
لأنه كان كاتباً في دواوين الدولة أواخر عهد الفاطميين .
وعن مهام اولاد العسال الوطنية يؤكد القمص يوسف الحومى على انة
كانت لهم منزلة رفيعة في عهد الدولة الايوبية الحاكمة ولاسيما المؤتمن ابو اسحق الذي كان مصاحبا للأيوبيين في الشام، ف وفقا لما كتبه الغازي ابن الواسطي (توفي أوائل القرن الرابع عشر) كان المؤتمن يعمل مستوفياً في ديوان الخراج بدمشق , ثم رسم المؤتمن كاهنا قسا فقمصا ( إيغومانوس أي مدبر)
ويذكر مخطوط فاتيكان 61 , أن الصفي قام برحلات خارج مصر حيث أنه قابل الفرنج وأعجب بحضارتهم وتكلم عما شاهده وأكثر ماأعجبه كتاب صغير قال عنه : ” … وقد شاهدت معهم كتاباً لطيفاً بخط بيًن , في رق نقي ذكروا أن فيه جميع كتب العتيقة والحديثة , وهي عشرة كتب كبار , فما صدقت حتى استكشفته بترجمان , وأخبرت بوجود مثله كثيراً في بلادهم , وأن قيمتة مائة دينار من دنانيرهم وهذا لايقدر عليه غيرهم ..”
وواضح ان خروجه من مصر , كان بإذن الحكام , وربما كان في مهمه وطنية او سياسية , ولكنه لم يفصح عنها أو يوضحها , مما يدل على انهم كانوا يفصلون فصلا تاما بين الكلام عن مهامهم الوطنية ومهامهم الدينية والعقائدية ولم يكتبوا عن مهامهم الوطنية الا فيما يوردون خبر ثقافي او كتاب جديد … وهكذا .
أما الأمجد فكان يشغل منصب [ كاتب ديوان الجيش ] كما ذكر انبا يوساب أسقف فوة في تاريخه وانه كان يتنقل بين القاهرة ودمشق وكان له منزل في كلا المدينتين .
ثم عين في وظيفة [كاتب الدرج] بقرار من الملك الصالح نجم الدين أيوب (1239 – 1249م) حسب ماذكر المقريزي .
وكان لهم مركز سام في الكنيسة اذ انتُخب احدهم وهو الصفي ابو الفضائل في عهد الخلاف الذي حدث أيام البابا كيرلس بن لقلق ليكون كاتما لأسرار المجمع الذي عقد لفض هذا الخلاف في توت سنة 955ش (سبتمبر 1238م ) . وربما يكون هذا مادعاه ان يجمع القوانين في كتاب سمي [المجموع الصفوي] جمع فيه قوانين المجامع وقوانين الملوك وبعض قوانين منسوبة زورا لمجع نيقية ونشرنا هذا الكتاب 1990م عن طبعة سنة 1908م . وقد لعب الأمجد دورا بارزا في انتخاب البابا غبريال الثالث/78 (1268-1271)
وكان المؤتمن كاهنا للرعية القبطية في دمشق الشام .
ويشير القمص يوسف الحومى لبرعة اولاد العسال في الثقافة العامة , و في علوم اللغة العربية , فقد إهتموا بالثقافة الدينية , وانخرطوا في خضم الحياة الثقافية المصرية . كما تعلموا عدة لغات وأجادوها مما أهلهم للاطلاع على ماكُتب بها وهي القبطية واليونانية والسريانية فضلا عن العربية التي أجادوها صرفا ونحوا , فضلا عن إجادتهم للخط الرومي (اليوناني القديم ) وهو المستخدم للآن في اللغة القبطية , واشتهروا بجودة الخط العربي ولعائلتهم يُنسب الخط الأسعدي غالباً .
وكانت لهم صِلات ثقافية مع الكُتّاب الأقباط وبعض الكُتّاب المسلمين واستفادوا من مكتباتهم الخاصة مما مكنهم من الإطلاع على كثير من عُلوم ومعارف العصر . وقاموا برحلات خارج مصر ولمدينة دمشق بالأكثر بحثاً عن الكُتب والمراجع وهناك إشارت تاريخية كثيرة لذلك .
ومؤلفات أولاد العسال تدل على سِعَة الإطلاع وطول باع في البحث , ولم يتركوا باباً من أبواب الدراسات إلا وطرقوه سواء في لُغتهم القبطية , وحساب الأبقطي والتفاسير الواضحة لكُتب الدين،ويجمعون القوانين والشرائع وعدا ذلك كان لهم إلمام بفنون أخرى كالتصوير والتركيبات الكيمائية . وإنشاؤهم العربي يُضارع أفضل شُعراء وكُتّاب العرب.
كما تدل كتاباتهم التي أظهروا فيها نصوصاً قديمة على حُسن فهمهم لها، فإنهم قد أدخلوا عناوين وأرقام على النصوص القديمة التي ذكروها في موسوعاتهم، وبمعنى آخر فهم قد بدأوا في دراسة النصوص القديمة ونحن الآن نكمل طريقهم بما أتاحه لنا العلم الحديث من طرق أحدث.
وكان لهم ولع بالمكتبات واقتناء الكتب , وكان لكل منهم مكتبته الخاصة , ويظهر هذا من المكتوب علي نسخة الاناجيل التي ترجمها الاسعد وانها : ” للخزانة ..الشيخية الاسعدية عمرها الله ” . ويُذكر أيضاً أن مكتبة المؤتمن التي كانت في دمشق قد دُمِر جزء كبير منها نحو سنة 1259م في الهياج الشعبي بعد هزيمة المغول . وفي هذه الأثناء ضاع كتاب ” السلم ” الذي وضعه في أثناء إقامته في دمشق وقال هو نفسه :
” لما كنت بدمشق المحروسة , وضعت سلما مثل هذا السلم فنُهبتُ فيها في جملة كتبي . في حادثة
حدثت لأهل ملتي وزمرة نحلتي ..”
وهذه الحادثة هي التي ذكرها المقريزي عن هياج شعبي حدث سنة 1259م
كما يذكر التاريخ أن الأمجد وهو الأخ الرابع كان عنده الراهب غبريال ينسخ له الكتب ويربي ابنه وهو الذي صار البابا غبريال الثالث البطريرك 77 فيما بعد (1268 – 1271م ) .
كما كان الأسعد بن العسال نفسه ناسخاً لبعض المخطوطات التي لاتزال باقية للآن بخطه موجوده في بعض المكتبات . ومن اشهر مؤلفاته ترجمة شهيره جدا للاناجيل راجعها على النسخ اليونانية والسريانية والقبطية .
واختتم القمص يوسف الحومى كلمتة عن اولاد العسال بشهادة قوية عن اولاد العسال بقوله ترك اولاد العسال بصمة قوية في التاريخ المصري سواء بدورهم الوطني مع السلاطين في خدمة الوطن والثقافة والتأليف والترجمة , وسواء في دورهم الكنسي البارز الذي جعلهم يقدمون كتب وتأليف وترجمات عقيدية وايمانية وتفسيرية , ولعل الذي سيظل يخلد دورهم الكنسي اكثر هو ان الترجمة العربية التى لاتزال تستخدمها الكنيسة في صلواتها من خلال كتاب [القطمارس] هو من ترجمة أولاد العسال .