أن تخرج عن الإطار المألوف وأن تغرد خارج السرب وأن تقدم عروضًا لها طابع عالمي بنكهة كنسية فهذا تحدٍ كبير لا ينتهجه إلا أشخاص آمنوا تمامًا بموهبتهم وأستطاعوا أن يعملوا طوال هذه السنين بشكل جماعي ولكن بروح واحدة وبنفس الجودة الفنية والإخراجية.
ومن هذا المنطلق يحتفل فريق مارمرقس للدراما -هذا العام- بمناسبة مرور ٥٠ عامًا على تأسيس وإنشاء مسرح كنيسة مارمرقس بشبرا، والذي استهل بداية احتفاله يوم ١١ أكتوبر الماضي من خلال يوم لعشاق المسرح متخذًًا عنوان “خشبة وستارة” قدموا خلاله ورش عمل حول العمل المسرحي بكل مقتضياته.
واستكمالا لاحتفالات الفريق باليوبيل الذهبي، قدم الفريق –أخيرًا- عرضين مسرحيين”غرفة بلا نوافذ”، و”البوفيه”، كبداية لسلسة عروض مختلفة لوجوه شابة متنوعة، تتوالى حتى أكتوبر ٢٠٢٠ .
“غرفة بلا نوافذ”..الخلود بالأعمال الحسنة
مسرحية “غرفة بلا نوافذ” ، مهداه إلى أرواح جميع من خدموا مسرح الكنيسة بحب وتفان في شتى مجالات المسرح، ولعلها كانت مناسبة تماما للإهداء، ففكرة العرض الأساسية هي خلود ذكرى الإنسان بأعماله الحسنة التي تتردد بذاكرة الأحياء.
قد تكون الفكرة صادمة للعين والعقل، حيث تجد عدة أرواح يجسدها ممثلين من أعمار مختلفة بتنوع في ثقافتهم ونوعهم يقومون بأعمال كانت تمثل مهنتهم وعملهم على الأرض ولكن في العالم الآخر.. لا أحد يدري بما يفعله الآخر، فعازف الكمان لا يسمع أحد ألحانه والمهرج لا يضحك أحد على أضحوكاته التي يرددها، وأيضا العالِم الكيميائي لا أحد يري ما يراه من خلال الميكروسكوب، كما أن هناك طفلة صغيرة -هي في الأصل تلعب البالية – تتحدث لغة مختلفة لكن لا أحد يري رقصتها.
يتصاعد الحديث بين هؤلاء في تناغم حواري رائع وحركة مسرحية منضبطة جسدها ممثلين شباب هم (مارينا هاني، مارينابولس، اندروا عادل، ماهر منير، بافلي إبراهيم والطفلة اوريلياريمون) مع تداخل الموسيقى التصويرية والتي وجدتها مناسبة للعرض مع عدة أبيات من رباعيات صلاح جاهين خدمت الموقف -وإن كنت أجد أن استخدام جاهين أصبح تيمة مكررة في معظم مسرحيات عروض مارمرقس- وقد كسرت حاجز الحزن الذي خيم على طبيعة موضوع العرض لتجد نفسك في النهاية أمام حقيقة لا نعلم مدى صدقها لأنها متعلقة بالعالم الآخر، مفاداها أن الروح لا تموت مرة ثانية مادام يذكرها الأحياء.
وعن هذا العمل يحدثنا مخرج العرض ريمون زكي، قائلاً: “فكرة العرض مأخوذة من كتاب (نريد الحياة) ليوسف عز الدين عيسى والمنشورة عام ١٩٦٠ م وكانت باللغة العربية الفصحى، وتم تعديل النص في بعض الأجزاء مثل تحدث الطفلة لاعبة البالية بالإنجليزية لتمثل تنوع الشعوب”.
وأضاف زكي:”هذا العرض قدمته عام ٢٠٠٥، لكن هناك فرق بالطبع بين العرضين فخبرتي كمخرج عام ٢٠٠٥ ليست كما هي الآن، فمع مرور الوقت ازدادت الخبرات المكتسبة من الأعمال التي مثلت فيها و أخرجتها، مما زاد من تنوع أفكاري و صقل موهبتي، وهذا جعلني أضيف أشياء جديدة، مثل إضافة بعض الجماليات كإضافة الطفلة اوريليا ريمون راقصة البالية وإعادة توزيع الأغنية الختامية من قبل محترفين لتظهر أكثر تواءما.
كما كان للإضاءة دور في التجديد واستغلال المكانية المتاحة بشكل أفضل”.
وأشار ريمون زكي، إلى أن ضيق وقت البروفات -ما يقرب من شهر ونصف- كان من أبرز المعوقات أمامه، ولكن التزام طاقم العمل تغلب على ذلك، ملمحًا إلى وجود ممثل مغترب جاء إلى القاهرة قبل العرض بأسبوع تقريبًا، ولكن تم التغلب على تلك المشكلة عن طريق البروفات الـonline.
وأوضح أيضا أن العمل مع ممثلين جدد بالفريق وقلة الخبرة وهو ما استلزم عمل العديد من البروفات للوصول هذا المستوى.
وعن طموحاته قال ريمون :” لدى طموح كبير بالمشاركة في مهرجان المسرح العام المقبل، ولكن بشكل شخصي وليس على المستوى المسرح الكنسي”.
البوفية… صراع السلطة والرأي الحر
بانسيابية وبساطة ودون أن يشعر الحاضرون بملل، ينتقل فريق مارمرقس بعد استراحة قصيرة إلى العرض الثاني وهو مسرحية “البوفية”.. وهي رواية كتبها الكاتب المسرحي الكبير علي سالم، وتدور فكرتها حول فكرة الصراع الأبدي بين السلطة بأنواعها و بين أصحاب الرأي الحر.
المسرحية تحكي عن مدير لمسرح يتقابل في مكتبه مع شاب كاتب رواية مسرحية، حيث ينتظر الشاب موافقة هذا المدير، الذي يبدو في باديء الأمر أنه متساهلًا مع طلبات الكاتب الشاب الذي يريد فقط أن تقدم روايته ليحصل مقابلها علي المال.. ومع تحاور الطرفين، تظهر سطحية مدير المسرح وبيروقراطيته وسعيه وراء تنفيذ بعض التعديلات، مع حرصه علي تنفيذ التعليمات العليا، حتى وإن جاءت علي حساب الإخلال بالنص المكتوب، مع تعرض الكاتب الشاب للتعنيف والترهيب مقابل التنازل عن أفكاره.
في حين يحاول الشاب أن يثبت لمدير المسرح أنه لابد من إعمال العقل وعدم اللهث وراء تنفيذ الأوامر، لكن هيهات فإن محاولاته باءت بالفشل، حتي بعد أن وضع يده علي السلطة وتمكن من تولى منصب مدير المسرح، فقد وجد التعقيدات والتشبيكات متعمقة في الجذور …. !
واقع الحال أن العرض كان رائعًا جدًا ومثيرًا، زاده أداء ممثلين أقل ما يقال عنهم “محترفو تمثيل” استوعبوا روح الشخصيات المكتوبة صعودًا وهبوطًا، فنجد أن مدير المسرح الذي قام بدوره رامي عدلي، هاديء تارة يتكلم بتعالي وعجرفة.. يفرض سطوته، وتارة أخري تجده ضعيف أجوف من الداخل ولا يمثل سوى أداة تنفذ تعليمات دون تفكير، و أمامه ذلك الكاتب الشاب ويقوم بدوره البارع جورج فوزي، الذي يتنقل بشخصيته في انفعالات مختلفة بين سعادة شاب يجد من يحتضن موهبته دون شروط، ليصبح منفعلًا نتيجة قمعه والضغط عليه من أجل تغيير نص روايته، ثم مواطن مقهور تعرض للتعذيب النفسي والجسدي، وأخيرًا فرحه بوضع يده علي السلطة ثم شعوره بالإحباط لفشله في تغيير الواقع، أيضًا الشخصية الثالثة وهو عامل البوفية -الذي يجسده ريمون زكي – يمتلك قدرة على الثبات الانفعالي وتجسيده لشخصية العامل البسيط المطيع الذي ينفذ الأوامر دون تفكير لتصل الفكرة للمتلقى بكل سهولة، و هذا إن دل على شيء إنما يدل علي براعة الممثلين وأيضا تمكن المخرج من استخدام أدواته ومعهم طاقم الديكور والموسيقى الذين يعملون معًا بشكل متكامل.
وعن هذا العرض، يحدثنا مخرجه عماد عبد الملك :” ننظر هنا للسلطة بالمعنى الواسع، أي كل من يمتلك أو يعتقد أنه يمتلك حرية أشخاص أخرين، فقد يكون الأب أو الزوج في البيت أو مدير بالعمل، وصولًا لأشكال السلطات الأخرى من دينية لسياسية وهكذا..”.
وأوضح أن العرض أراد إلقاء الضوء على فكرة السلطة، ولكنه لا يجرمها و لا يرفضها بشكل أناركي، لكنه يرفض استغلال صاحب السلطة لموقعه.
وردًا على سؤالنا :ما الذي دفعه لجعل المسرحية تعتمد على فكرة مدير مسرح وليس رجل أمن ؟ خاصة ان الفكرة مباشرة جدا (قمع الفكر) قال عماد : “نص الراحل على سالم مكتوب بهذا الشكل و الحقيقية فكرته عبقرية في تشخيص السلطة في شكل مدير المسرح (الرقيب) خصوصًا أن المسرحية كتبت و عرضت فى الستينيات، فالكاتب كان يقوم بعمل إسقاط على واقع البلد في ذلك الوقت”.
وأضاف :”في رأيي أن تشخيص السلطة فى شكل رجل أمن كان سيوجه العرض في ناحية واحدة، في حين أني كنت مهتم بعرض شمولية فكرة السلطة، لذا فإن رموز السلطة تنوعت بدون الاشارة لسلطة بعينها مثل السبحة و طريقة التحدث في التليفون وغيرها أدوات التحقيق التي صدرها مدير المسرح للجمهور مع وجود عصا المدرس و السلسلة التي تم وضعها على كتف التمثال الموجود”.
وعن سبب الاستعانة بالموسيقى التصويرية لفيلم (أرض الخوف) لداوود عبد السيد، قال:”الحقيقة موسيقى راجح داود في أرض الخوف و الهروب في مشهد التعذيب له سببين، الأول العمل على استدعاء ذكريات الناس عن الفيلم، فالمشاهد يربط بين الفيلم والمسرحية، لتصل الفكرة بوضوح، أما السبب الثانى فهو أن موسيقى راجح داوود لا تشخص الموقف لكنها تأخد المتلقى لمنطقة بدء الإحساس بمشاعر معينة، و التأكيد على الحالة النفسية التي أريد ادخال المشاهد فيها، وبالبلدي كده كنت عاوز أضايق المشاهد من اللي بيشوفه عشان لو رفض اللي بيحصل للمؤلف هيرفض فكرة القمع اللي ممكن هو يكون بيمارسها على أشخاص في حياته”.
وعن كيفية إعداد نص مسرحية “البوفية” بطريقة تتواءم مع المسرح الكنسي قال عبد الملك : لم يكن هناك إعداد تقريبًا، عدا استبدال بعض الألفاظ اللي كان من الصعب أن تقال داخل الكنيسة.
وعن الصعوبات التي تواجه المسرح الكنسي-علي وجه التحديد- قال عبد الملك :”التمويل و النصوص الجيدة المناسبة من أبرز الصعوبات، و الأهم من ذلك هو الهوية بمعنى: هل نقدم مسرحيات دينية تمامًا، أم مسرحيات تحمل قيمًا تناسب الكنيسة؟، هذا بالإضافة إلى النظرة السلبية للمسرح الكنسي في بعض الكنائس”.
وحول خطة الفريق للمشاركة في مهرجانات مسرحية محلية أو إقليمية أو دولية، أوضح أن الفريق لديه خطة طموحة للاشتراك في مهرحانات محلية العام المقبل، و يتم الآن دراسة ذلك.
وردًا على سؤال حول متى يخرج فريق مارمرقس من عباءة الكنيسة، أوضح عبد الملك أن الفريق يعتبر أن الكنيسة هوية و أن انتمائه القبطى هو ما ميزه، مؤكدًا:”سنظل نقدم مسرحًا قبطيًا يناسب المشاهد داخل و خارج الكنيسة، يحمل قيم الكنيسة القبطية المصرية للعالم، من خلال فن محترف -تحت مظلة الكنيسة- لاننا واثقين في قدرة الفن على التغيير، فعندما تكون قيم الكنيسة القبطية متجذرة فى الأعمال المقدمة، فإن حجم التغيير الإيجابي يكون كبيرًا”.