مجمع العقيدة والإيمان ، ظهورات مريم العذراء – فاطيما ١٩١٧ – ( ٥ )
شرح لاهوتي
إن من يقرأ بتمعّن نصّ ما يُدعى ” بالسرّ ” الثالث في فاطيما، وقد نُشرَ طيّه كاملاً، بعد زمن طويل، وبأمر من الأب الأقدس، ربّما اعترته الخيبة أو الدهشة. بعد كل ما سيق حوله من تآويل. لم يُوحَى فيه بأي سرّ عظيم. ولم يمزَّق الستار عن المستقبل . ونرى كنيسة الشهداء في القرن العشرين الذي انتهى، ممثّلة من خلال مشهد وُصفَ بلغة رمزيّة يصعب فهمها. فهل كان هذا ما أرادت أمّ الرب أن تنقله إلى المسيحية وإلى الإنسانية، في حقبة تغصّ بالمشاكل الكبرى والمضايق ؟ وهل يفيدنا ذلك في بدء هذا الألف الجديد ؟ أم هي مجرّد تصوّرات أطفال تعكس لنا عالمهم الداخلي، وقد ترعرعوا في بيئة من التقوى العميقة، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه مضطربين بالعذاب الذي كان يهدّد عصرهم ؟ فكيف ينبغي أن نفهم الرؤيا، وما يجب أن يكون رأينا فيها ؟
الوحي العام والإيحاءات الفردية – مقامها اللاهوتي
قبل أن نقوم بمحاولة شرح، يمكننا أن نجد خطوطها الأساسية في الكلمة التي ألقاها الكردينال سودانو في ١٣ مايو / أيار الماضي، في ختام الإحتفال الإفخارستي الذي ترأسه الأب الأقدس في فاطيما، يجدر بنا أن نوضح في العمق الطريقة التي بها يجب أن نفهم، وفق عقيدة الكنيسة، ظاهراتٍ مثل ظاهرة فاطيما، في إطار حياة الإيمان . إن تعليم الكنيسة يميّز ” الوحي العام ” من ” الإيحاءات الفرديّة “. بين هاتين الحقيقتين فرق، لا في القياس فحسب، بل في الجوهر أيضاً. فالتعبير ” الوحي العام ” يعني عمل العهدين القديم والجديد، ويدعى ” الوحي “، لأن الله فيه قد عرَّف بذاته تدريجياً للبشر، إلى درجة انه صار هو نفسه بشراً، لكي يجذب العالم أجمع إليه ويوحّده به، بواسطة ابنه المتجسّد، يسوع المسيح. فليس هو مجرّد نقل عقلاني، بل هو تصرّف حيويّ، به صار الله قريباً من البشر. ومن الطبيعي جداً أن تتخلّله أمور تهمّ العقل والفهم لسرّ الله، لأن تصرّف الله يهمّ الإنسان كله كاملاً. اذاً فهو يهمّ أيضاً عقله، ولكن لا العقل وحده. وبما ان الله واحد، فالتاريخ الذي عاشه مع البشر هو أيضاً واحد. وهذا ينطبق على كل الأزمان، وقد وجد تحقيقه الكامل في حياة يسوع المسيح وموته وقيامته. في المسيح قال الله كل شيء، أي ذاته، وبالتالي فالوحي قد اكتمل مع تحقيق سرّ المسيح، الذي وجد تعبيره في العهد الجديد. ويستشهد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بنص من يوحنا الصليبي، ليشرح فيه ان الوحي نهائي وكامل : ” لقد أعطانا الله ابنه، الذي هو كلمته، فلم يعد لديه كلمة أخرى يعطينا إيّاها. قال لنا كلّ شيء معاً دفعة واحدة في هذه الكلمة الواحدة […] ، لأن ما كان يقوله مجزّأ للانبياء، قاله كلّه كاملاً في ابنه […] . ولذلك فكل من يريد الآن أن يسأله، أو يرغب في الحصول على رؤيا أو على وحي، لا يرتكب جنوناً فحسب، بل هو يهين الله، لأنه لا يصوّب نظره إلى المسيح وحده، غير مبالٍ بالحصول على أيّ شيء آخر جديد ” (CEC. N.65: S. Jean de la Croix, Montée au Carmel, 2,22)
إن وحي الله الفريد الموجّه إلى جميع الشعوب قد اكتمل مع المسيح، وهو بالشهادة التي تشهدها له كتب العهد الجديد، يربط الكنيسة بالحدث الفريد في تاريخ الخلاص، وبكلمة البيبليا، التي تضمن هذا الحدث وتفسّره. لكن ذلك لا يعني ان الكنيسة يمكنها الآن أن تنظر إلى الماضي فقط، لتبقى هكذا محكوماً عليها في دوّامة ترداد عقيم. ويقول كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في هذا الصدد : ” ولو أن الوحي قد اكتمل، فهو لم يتّضح كلّياً، ويبقى على الإيمان المسيحي ان يدرك تدريجياً مغزاه على ممّر الأجيال ” (الفقرة ٦٦ ) . فهذان المظهران، أعني الرباط بين قراءة الحدث، والتقدّم في إدراكه، قد أشار إليهما المسيح في عظته الأخيرة، عندما ودَّع تلاميذه بقوله : ” لديّ أمور كثيرة أيضاً أقولها لكم، ولكنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوها. ومتى جاء الروح الحق فهو يقود خطاكم في الحقّ كلّه، لأنه لا يأتيكم بشيء من عنده […]. وهو سوف يمجّدني، لأنه سيأخذ مّما لي ولينبئكم به ” ( يوحنا ١٦ : ١٢ – ١٤ ) .
فمن جهة، الروح هو القائد، وهو الذي يشرّع الباب إلى المعرفة، ولم يكن في السابق من يتحمّل ثقل تلك المعرفة، وذلك هو مدى الإيمان المسيحي وعمقه الذي لا يُدرك. ومن جهة ثانية، فإن عمل القيادة هذا هو نوع من ” الأخذ ” من كنز يسوع المسيح نفسه، وعمل الروح هو الذي يُظهر عمقه الخفيّ الذي لا يُسبر، ويستشهد كتاب التعليم في هذا الصدد بكلمة عميقة للبابا غريغوريوس الكبير : ” الكلمات الإلهية وقارئها يكبران في آن معــاً ” (CEC n, 94) ، غريغوريوس الكبير، عظة حول حزقيال ١، ٧، ٨ ). والمجمع الفاتيكاني الثاني يذكر ثلاث طرق أساسية، بها يتمّ عمل الروح القدس القيادي من قبل المؤمنين، وبالتالي ” نحو الكلمة ” . يتمّ هذا العمل بواسطة التأمّل والدرس من قبل المؤمنين، وبواسطة الفهم العميق الناتج عن الأختبار الروحاني، وعن تبشير ” أولئك الذين بالتسلسل في الأسقفية، نالوا بالتأكيد موهبة الحقيقة “( كلمة الله، الفقرة ٨ ).
في هذا الإطار، يصبح منذ الآن ممكناً فهم ” الوحي الفردي “بنوع صحيح، وهو يتعلّق بكل الرؤيوات والإيحاءات التي حصلت بعد ختام العهد الجديد. اذاً في هذا النوع من الوحي، ينبغي أن نضع رسالة فاطيما. ولنبدأ بقراءة كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في هذا الموضوع : ” على مرّ الأجيال، كانت إيحاءات تدعى ” فرديّة ” ، وبعضها أقرّت به سلطة الكنيسة […] ليس دورها […] في أن ” تكمّل ” وحي المسيح النهائي، بل في أن تساعد على العيش منه بصورة أكمل في حقبة معيّنة من التاريخ ” (الفقرة ٦٧ ) بهذا نجد توضيحاً لأمرين :
١ – ان سلطة الإيحاءات الفردية هي في جوهرها مختلفة عن الوحي العام النهائي، فهذا الوحي ملزم لإيماننا. فيه يخاطبنا الله نفسه بواسطة كلمات بشريّة، وتأمُّل الجماعة الكنسية الحيّة. وهذا الإيمان بالله وبكلمته يتميّز عن أيّ ايمان آخر، أو أي معتقد أو رأي بشري. فهذا اليقين بأن الله هو المتكلّم يعطيني الضمانة بأنّ أواجه الحقيقة في ذاتها، واليقين الذي لا يمكن البرهان عنه بأيّ نوع بشريّ في المعرفة. ذلك هو اليقين الذي أبني عليه حياتي، والذي أكل إليه نفسي في وقت مماتي.
٢ – الوحي الفردي هو عون للايمان، وهو يَظهَر قابل التصديق لأنه بالتدقيق يعيدنا إلى الوحي العام النهائي. والكردينال بروسبيرو لمبرتيني، الذي غدا فيما بعد البابا مبارك الرابع، قال في هذا الصدد، في مؤلَّفه التقليدي، الذي أصبح فيما بعد قاعدة للتطويب وإعلان القداسة : ” إن التسليم بإيماننا الكاثوليكي لا يرتكز على إيحاءات مصدَّق عليها بهذه الطريقة. هذا غير ممكن. تلك الإيحاءات تتطلّب بالحري تسليماً بإيمان بشري وفق قواعد الفطنة التي تعرضها لنا على أنها قابلة للبرهان والتصديق بروح التقوى ” . واللاهوتي الفلمندي أ. دانيس، العالم البارز في هذا الموضوع، يؤكّد في صورة مجملة إن مصادقة الكنيسة على وحي فردي يحوي ثلاثة عناصر: أن لا تحوي رسالته شيئاً يناقض الإيمان والأخلاق الحسنة، وأن يكون نشره شرعياً، وأن يُسمح للمؤمنين بتصديقه بكل فطنة ” . [E. DHANIS, regard sur Fatima et bilan d’une discussion, la Civiltà Cattolica 104 (1953, II),pp. 392-406, en particulier p. 397] . إذاً فالمقياس لصحّة الوحي الفردي وقيمته انما هو توجيهه نحو المسيح نفسه. أمّا عندما يبعدنا عنه وعندما يستقل عنه، أو عندما يدّعي انه يمنح خلاصاً آخر وأفضل وأهمّ من الإنجيل، فحينئذ بالتأكيد لا يكون من الروح القدس، الذي يقودنا في داخل الإنجيل لا خارجاً عنه. ولكن ذلك لا يمنع من ان الوحي الفردي قد يشدّد على نواحٍ جديدة، ويظهر أشكالاً من التقوى جديدة، ويعمّق أشكالاً قديمة ويطوّرها. ولكن، بأيّ شكل كان، وفي كل ذلك، ينبغي أن يكون غذاء للإيمان وللرجاء والمحبة، التي هي للجميع الطريق الدائم إلى الخلاص، ويمكن أن نضيف أن الإيحاءات الفردية تـنبع غالباً من التقوى الشعبية وتنعكس عليها، فتعطيها دفعاً جديداً، وتشرّع لها أشكالاً جديدة. وذلك لا يمنع أن يكون لها تأثير على الليتورجيا نفسها، كما يظهر مثلاً في عيدي جسد الرب وقلب يسوع الأقدس. ومن ناحية معيّنة، تندرج العلاقة بين الوحي العام والإيحاءات الفردية في إطار العلاقة التي بين الليتورجيا والتقوى الشعبية. تلك العلاقة هي صورة حيّة عن الكنيسة، في مجملها، وهي تتغذّى مباشرة من الإنجيل. فالتديّن الشعبي هو الشكل الأول والأساسي ” للانثـقاف ” . بالنسبة إلى الإيمان، الذي ينبغي أن يتوجّه بصورة متواصلة، وينقاد لتعليمات الليتورجيا، ولكن هو بدوره يخصب الإيمان انطلاقاً من القلب.
وهكذا ننتقل الآن من تحديدات كانت بالحري سلبية، وكانت في بداية الموضوع ضرورية، إلى تحديدات إيجابية للإيحاءات الفردية : كيف يمكننا أن نصنّفها بنوع صحيح، انطلاقاً من الكتاب المقدّس ؟ ما هو معناها اللاهوتي ؟ إن أقدم رسالة حُفظت لنا من القديس بولس، وربما كانت في المطلق أقدم نص في العهد الجديد، أي الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، يبدو لي انها تعطيني الإشارة . كتب فيها الرسول : ” لا تطفئوا الروح ، لا تحتقروا النبوءات ، بل اختبروا كل شيء وتمّسكوا بالحسن ” ( تسالونيقي الأولى ٥ : ١٩ – ٢١ ) . إن موهبة النبوءة معطاة للكنيسة في كل العصور. وينبغي فحصُها ولا يمكن احتقارها! بهذا الصدد، يجدر بنا أن ندرك هذا الواقع، وهو ان النبوءة، في معناها البيبلي، لا تعني الإنباء بالمستقبل، بل شرح إرادة الله في الزمن الحاضر، وبالتالي إظهار الطريق المستقيم نحو المستقبل. إن من يُنبئ بالمستقبل يُشبع فضولية العقل، الذي يرغب في كشف الستار عن المستقبل. أمّا النبيّ، من جهته، فيشبع عمى الإرادة والفكر، ويُنير إرادة الله كضرورة وإشارة إلى الحاضر. في هذه الحال، تكون قيمة الإنباء بالمستقبل أمراً ثانوياً. أمّا الجوهري فهو تطبيق الوحي الفريد على الحاضر، الذي يعنيني في العمق: فالكلمة النبوية هي إنذار أو تعزية أو الاثنان معاً. وفي هذا المعنى، يمكننا أن نضمّ موهبة النبوءة إلى مجموعة ” علامات الأزمنة ” التي سلّط عليها الأنوار المجمع الفاتيكاني الثاني : ” تعرفون أن تمّيزوا وجه الأرض والسماء، أمّا هذا الزمان، فكيف لا تميّزونه ؟ ” ( لوقا ١٢ : ٥٦ ) . ” علامات الأزمنة ” ، في كلمـات يسوع، ينبغي فهمها أنها طريقه الخاصة، بل هو نفسه. فإن شرح علامات الأزمنة على ضؤ الإيمان يعني الإقرار بحضور المسيح في كلّ زمان. فالمقصود في الإيحاءات الفردية التي تقرّ بها الكنيسة – وبالتالي أيضاً وحي فاطيما – هو التالي : أن يُعيننا على فهم علامات الأزمنة، والحصول على الجواب الصحيح عليها في الإيمان “
البُنْيَة الأنتروبولوجية للإيحاءات الفردية
بعد أن حاولنا، بتلك الإعتبارات، تحديد المقام اللاهوتي للإيحاءات الفردية، وقبل أن نقوم بشرح رسالة فاطيما، ينبغي أيضاً أن نحاول باختصار توضيح طابعها الانتروبولوجي (النفساني). ان علم الإنسان ( الانتروبولوجيا ) اللاهوتي يميّز في هذا المضمار ثلاثة أشكال من الحسّ أو من ” الرؤيا ” : رؤيا الحواسّ، أي الحسّ الخارجي الجسديّ، والحس الداخلي، والرؤيا الروحانية. من الواضح أنه في رؤيوات لورد وفاطيما… ليس المقصود الحسّ العادي الخارجي بواسطة الحواس : فالصور والأشكال التي ترى ليست موجودة في الخارج في مكان ما، كما توجد مثلاً الشجرة او البيت. وهذا واضح تماماً، مثلاً، في ما يتعلّق برؤيا جهنم ( الموصوفة في القسم الأول من ” سرّ ” فاطيما ) ، أو أيضاً الرؤيا الموصوفة في القسم الثالث من ” السرّ ” . ولكن ذلك يمكن إثباته أيضاً بصورة سهلة جداً، بالنسبة إلى الرؤيوات الأخرى، خصوصاً لأن جميع الأشخاص الحاضرين لم يروها، بل ” الراؤون ” في الواقع وحدهم. وواضح أيضاً أنها ليست رؤيا ” عقليّة ” روحانية، بدون صور، كما تطالعنا في الدرجات الأخرى من الحياة الصوفية . إذاً فهي من الفئة الوسطى، أي الحسّ الداخلي، الذي يتّخذ بالنسبة إلى الرائي قوّة حضور تعادل في نظره الظهور الخارجي المحسوس .
تلك الرؤيا الداخلية لا تعني أشياء خيالية، ومجرّد تعبير عن تصوّر شخصيّ، بل هي تعني إن النفس قادرة أن ترى بالحواس ما هو غير قابل للحسّ، وما هو غير قابل للرؤية – تلك هي الرؤيا بواسطة ” الحواس الداخلية ” . إنها ” أشياء ” حقيقية تلمس النفس، ولو إنها لا تخص عالمنا المحسوس العادي. لذلك فهي تتطلّب تنبّهاً داخلياً في القلب يكون في الغالب غير موجود بسبب ضغط الأشياء الخارجية القوية، وبسبب الصور والأفكار التي تملأ النفس. فالشخص البشري ينقاد إلى أبعد من العالم الخارجي البحت، فتمسّه الحقيقة بأعمق ما فيها من أبعاد، وتُصبح رؤيتها ممكنة لديه. هكذا يمكننا أن نفهم لماذا يكون الأطفال هم الأشخاص المميّزين لمثل تلك الظهورات : فالنفس فيهم ليست بعدُ مشوّهة، ولذلك فقدرتها الداخلية على الحس هي غير معطّلة : ” من فم الأطفال والرضّع هيّأت تسبيحاً ” . بهذه الآية من المزمور ٨ الآية ٣ ، أجاب يسوع على انتقاد الأحبار والشيوخ، الذين اعتبروا في غير أوانه صراخ ” هوشعنا ” في هتاف الأطفال ( متى ٢١ : ١٦ ) .
” فالرؤيا الداخلية ” ليست تخيّلاً، بل هي طريقة حقيقية ودقيقة لإثبات الحقيقة، كما قلنا سابقاً. ولكن ضمن حدود. فإذا كانت الرؤيا الخارجية تتضمّن في ذاتها عامـلاً شخصيّاً، لأننا لا نرى الشيء في ذاته، بل هو يصل إلينا من خلال تصفية حواسّنا له، فعلى هذه الحواسّ أن تقوم بعمليّة نقل؛ فكم يكون ذلك واضحاً بالحري في الرؤيا الداخلية، وخصوصاً عندما يكون المقصود أموراً تتخطى في حدّ ذاتها آفاقنا. فالشخص الرائي ملتزم فيها بنوع أعمق شخصيّ. فهو يرى بواسطة إمكاناته الحسّية، وبالطرق التصويرية والتعبيرية الممكنة لديه. ففي الرؤيا الداخلية تتمّ عملية النقل بنوع أوسع بكثير مّما هي عليه في الرؤيا الخارجية، حتى إن الشخص هو بنوع أساسي مشارك في إعطاء الشكل في صورةٍ ما كما يظهر له، وهذه الصورة تأتي على قياس الشخص ووفق إمكاناته. إذاً فتلك الرؤيوات ليست البتة صوراً ” فوتوغرافية ” للماورائيات، بل هي تحمل في طيَّاتها إمكانات الشخص الذي يدركها ومحدوديّاته .
ويمكن إثبات ذلك من خلال رؤيوات القديسين الكبرى. وبالطبع هذا ينطبق أيضاً على رؤيوات اطفال فاطيما. فالصور التي وصفوها ليست هي بالفعل تعبيراً عن تخيّلهم، بل هي ثمرة حسّ حقيقي آتٍ من عَلُ ومن الداخل، كما انه أيضاً لا ينبغي اعتبارها، وكأنّ شعار الماورائيات قد أُزيح في لحظة، فظهرت السماء في جوهرها كما هي بصفاء، بالطريقة التي نرجو أن نراها يوماً ما في اتّحادنا النهائيّ بالله. تلك الصور، يمكننا القول انها بالحري خلاصة من الدافع الآتي من عَلُ، ومن الإمكانات الواقعية الممكنة لدى الشخص الرائي، أي الأطفال. لذلك فالتعبير التصويري لتلك الرؤيوات هو تعبير رمزيّ. قال الكردينال سودانو في هذا الصدد : ” تلك الرؤيوات لا تصف أحداث المستقبل بصورة فوتوغرافية، بل هي تختصر وتجمع في مشهد واحد أحداثاً تتوزّع على الزمن في تتابع ومدّة غير محدّدين ” . فهذا الجمع بين الزمان والمكان في صورة واحدة، هو أمر مميّز خاصّ بهذا النوع من الرؤيوات، التي لا يمكن تفسيرها إلاّ بعد أن تكون قد تحقّقت. لا يمكننا القول ان كل عنصر من الرؤيا ينبغي أن يكون له معنى تاريخي واقعي. بل المقصود هي الرؤيا في مجملها ، انطلاقاً من مجمل الصور التي فيها يجب أن نفهم عناصرها الخاصّة . وأيّاً كان مركز كل صورة ، فهي تُكشف بنوع نهائيّ انطلاقاً ممّا هو المركز في ” النبوءة ” المسيحية نفسها : فالمركز هو حيث تصبح الرؤيا نداء وقائداً إلى مشيئة الله .
( للمقال صلة )
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية واورشليم والاردن للأرمن الكاثوليك