ثانيا: تكريس الدولة الثيوقراطية
لا داعي للعودة بالتفصيل إلي المادة الثانية من الدستور المصري, فقد دارت نقاشات مستفيضة حولها. فقط ننوه بالنداء الصادر في مارس 7002 عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان, والذي وقعه مائة من الكتاب والسياسيين والحقوقيين, يطالب فيه بتعديل نص المادة الثانية مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإسلام ديانة غالبية المواطنين; وأن التمتع بالحقوق والحريات المدنية لا يتوقف علي العقائد الدينية للفرد; وضرورة التزام كافة أجهزة الدولة بالحياد إزاء الأديان والعقائد ومعتنقيها من المواطنين. وقد استنكرت القيادات السياسية البيان عندئذ, ثم تجاهلته تماما.
وكما يقول المفكر الراحل محمد السيد سعيد (الأهرام 21ـ2ـ7002), فإن المادة الثانية تنشأ عنها مشكلة واضحة بذاتها وهي أن النص يميز بين المواطنين علي أساس الدين بمجرد أن يشير إلي دين دون الآخر (..) وفي أعماق هذا التمييز نجد تعارضا أصيلا بين مفهومين للدولة العصرية_:_ الأول يقوم علي تعريفها بأنها تنتمي لدين معين أو أصول عرقية ما_,_ والثاني يقوم علي أنها تعبير عن وطن يضمن المساواة بين مواطنيه. ويؤكد أن التعارض بين نص المادة الثانية وبقية نصوص الدستور عميق للغاية تاريخيا وفلسفيا_; فالدساتير المصرية الحديثة تقوم علي مفهوم الدولة المدنية._ والاتجاه الرئيسي للحياة السياسية والفكر الدستوري الحديث في الوطن المصري يقوم علي مشروع بناء دولة ديموقراطية حديثة تقوم علي حكم القانون وتنشر العدل وتدفع حركة النهوض الوطني._
ويذكر بحقيقة يتجاهلها الكثيرون وهي أنه عبر تاريخ بناء الدولة الحديثة, كان المجتمع المصري ككل قد قبل بسلاسة مدهشة عملية تحديث التشريعات باستلهام مباديء القانون والتنظيم الاجتماعي الحديث, لأن الأطر الفقهية التي ورثها من القرون السابقة كانت تبدو بوضوح بالغ ولا لبس فيه مسئولة عن التخلف الاجتماعي والسياسي الطويل للبلاد وبعيدة عن إمداد الوطن بالدلالات والتنظيمات الضرورية لبناء الدولة المدنية الحديثة واستكمال بناء الأمة المصرية, كما تقبل المجتمع أيضا فكرة التمييز بين الانتماء الديني من ناحية, وتعريف رسالة الدولة وأدوارها من ناحية أخري;_ فالدولة إطار للوطنية وهيئة مدنية لتنظيم الشئون المشتركة للمجتمع بكل مواطنيه, والدين إيمان فردي وجماعي قد يعين مرجعية لسلوك الناس في الحياة المدنية, ولكنه لا يتحد بالدولة أو اختياراتها السياسية وإلا انقلب بها الحال إلي دولة دينية_._
وفي المقابل لا يفوتنا هنا أن نلفت النظر إلي نقطتين بالغتي الدلالة:
1ـ أن الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي وقعت عليها مصر (4ـ8ـ7691) ليست ملزمة تماما لأن قرار رئيس الجمهورية رقم 635 لسنة 1891 أكد أن الموافقة عليها تكون مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها. أي أن التحفظ المصري يعني, في حد ذاته, وجود تناقض بين الشريعة ومواثيق حقوق الإنسان.
2ـ صرح د. أحمد كمال أبوالمجد, نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان, أنه لا يجد وصفا للمطالبين بإلغاء الشريعة الإسلامية من الدستور, يطالب بإلغاء القانون الفرنسي, فهذا جنون لاحظ فقط أن المتحدث هو المسئول الفعلي الأول عن حقوق الإنسان في مصر!
ونتيجة لتلك المادة وبناء عليها, وإضافة للتداعيات القانونية الناشئة عنها, نشأ مناخ تدييني عام يشكل كابوسا يسيطر علي مصر بطريقة لم تعرفها منذ بدأت خطوات بناء الدولة الحديثة قبل قرنين.
ولن نعيد التذكير بما ترتكبه أجهزة الدولة إعلاميا وتعليميا كل يوم, لكن فقط ننوه بحالة رمزية تتعلق بمسابقات تحفيظ القرآن, محليا (جائزة المحافظات, وقيمتها مائة ألف جنيه, نالتها هذا العام جنوب سيناء وعالميا (شارك فيها متسابقون من اثنتين وستين دولة, وتسلم الفائزون جوائزهم, التي تراوحت بين عشرة آلاف وخمسين ألف جنيه, من يد رئيس الجمهورية, وينتمون إلي بنجلادش والكاميرون وليبيا والسعودية وأفريقيا الوسطي والأردن وإيطاليا ومصر). هذا فضلا عن جائزة مبارك الكبري للدراسات الإسلامية وقيمتها مائة ألف جنيه.
قد يبدو الكلام عن المادة الثانية وعلاقة الدين بالدولة ترفا لا تحتمله ولا تحتاجه مصر حاليا, في وقت أصبح الاهتمام يتمركز حول النقاب, وإذا ما كان ارتداؤه يدخل في دائرة الحريات الشخصية وحقوق الإنسان.
ولكن لو كان لمصر دستور علماني متحضر, لكان من الأسهل نسبيا التصدي لأمثال هذه الأمور, ولكان من الأيسر أن تقوم الدولة بدورها الطبيعي وتحاسب علي مقدار نجاحها أو فشلها في تنفيذ التزاماتها الأساسية طبقا للعقد الاجتماعي الذي يربطها بالشعب, وفيه تلتزم (كما يقول محمد السيد سعيد) بحماية حقوق جوهرية غير قابلة للتصرف حتي من جانب المجتمع نفسه_, وببناء نظام سياسي يتيح للمجتمع تحقيق أقصي قدر ممكن من الانسجام الحر__ لإشباع حاجة المجتمع للتقدم.
ولكن دولتنا تتجاهل مثل هذه الالتزامات, التي هي من أسس الدساتير الحديثة!
وفي دولة كهذه, يصبح الكلام عن اندماج كافة مكونات المجتمع في النظام السياسي نوعا من أحلام اليقظة.
وإلي مقال أخير لمراجعة ما تبقي من أهم الحواجز.
[email protected]