* لماذا وجه سعد زغلول نداءات للرئيس الأمريكي ورئيس مؤتمر السلام والصحف الأجنبية لكنه لم يوجه نداء للشعب
* اتخذ المسئولون بالخارجية البريطانية موقف اللامبالاة من الحركة الوطنية وتجاهل مطالب الشعب
* اندلعت الثورة علي نمط واحد في أنحاء البلاد بغير تدبير ولا سابق اتفاق
* أعجب الأجانب بمسيرات المتظاهرين فكانوا يصفقون لهم ويقولون: تقدموا, فالنصر لكم حتما
* رد المعتمد البريطاني علي حادث اعتداء جنوده علي امرأة في المظاهرة قائلا: نأسف لما أصاب السيدة في الطريق العام!!
* جنازات الشهداء كانت تجسيدا لوحدة المصريين بدون تفرقة
في صباح يوم 6 مارس عام 1919 استدعي القائد العام للقوات البريطانية رجال الوفد المصري, وألقي عليهم هذا البلاغ: علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة, وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في تأليف الوزارة, وحيث إن البلاد تحت الأحكام العسكرية, لهذا يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلي عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب هذه الأحكام.
وبعد أن أتم تلاوة هذا البلاغ, حاول سعد زغلول باشا مناقشته, فصاح في وجهه: لا مناقشة!, وتركهم وانصرف, وعندما انصرفوا من عنده كتبوا برقية إلي رئيس الحكومة البريطانية, قالوا له: إن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها علي سفر الوفد, قبلت استقالتها نهائيا, وليس لذلك معني إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا علي مؤتمر السلام, ونتج عن هذه السياسة أن أعظم رجال مصر أهلية لإدارة البلاد في هذه الأيام, رفضوا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التي أجمعت علي طلب الاستقلال, فالنتيجة الطبيعية لذلك أن تقع مسئولية بقاء البلاد بلا حكومة علي الذين وضعوا هؤلاء في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمتهم, غير أن السلطة العسكرية عمدت إلي تحميلنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها. أنذرتنا السلطة اليوم, وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري, وهي لا تجهل أننا نطلب لبلادنا الاستقلال التام, ونري الحماية غير مشروعة, كما تعلم بالضرورة أننا أخذنا علي عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك, وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذي يجلب سخط العالم المتمدين, حتي تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد, فيرتاح بال الشعب. واتخذت السلطة العسكرية البريطانية في مصر من رفع هذه البرقية إلي رئيس حكومة لندن مبررا لاستعمال القوة, وظنت أنها بذلك ترهب المصريين, وتزعزع عقيدتهم في عدالة قضيتهم.
وفي يوم 8 مارس عام 1919 تم اعتقال كل من سعد زغلول باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا, ونفوا إلي جزيرة مالطة. إنها أولي محاولات الفرز, كبار الأعيان ذوو الميول التركية الذين كانوا يكرهون الإنجليز ويشجعون خصومهم ميلا للأتراك, بدأوا يستشعرون الخطر من لجوء زعيم الأمة إلي القاعدة الجماهيرية, فأدركوا أن اقتحام جماهير الشعب المصري ميدان المطالبة بالاستقلال التام سوف ينتهي بالقضاء علي النفوذ الإنجليزي والتركي معا, وسوف يهدد المصالح الاقتصادية والاجتماعية لكبار الأعيان, لكن سعد باشا يمضي في طريقه مستجمعا قوي الطرفين معا. الجماهير توقع له العرائض والأعيان يحاول أن يسترضيهم وأن ينال تأييدهم, وهكذا عقد اجتماع في بيته حضرته غالبية أعضاء الجمعية التشريعية, حيث كرسوا زعامة سعد وفوضوه في السعي لتحقيق الاستقلال, وقرروا أن جميع القوانين التي استنت في غيبة الجمعية منذ إيقاف اجتماعاتها قبيل الحرب وحتي اجتماعها هذا تعتبر لاغية وغير معمول بها, وأكدت الجمعية علي حق مصر في الاستقلال التام, وأن المتحدث الوحيد باسم مصر هو سعد زغلول.
تحذير الخارجية البريطانية
وبينما كان سعد يستجمع أواصر الزعامة ليقود شعب بلاده, كان الإنجليز بعيدين تماما عن إدراك حقيقة ما يموج في صدر مصر, ويرسل السير وينجت إلي حكومته في يوم 18 نوفمبر عام 1918 برقية أخري, هذا نصها: استقبلنا ثلاثة من المصريين هم سعد باشا زغلول, وعبدالعزيز باشا فهمي, وعلي باشا شعراوي, وجميعهم كما تعرف من السياسيين ذوي الآراء المتقدمة, وجاءوا ليدعوا لبرنامج للاستقلال الذاتي التام لمصر, لا يترك لبريطانيا إلا الإشراف علي مسألة الدين العام والتسهيلات الخاصة لسفننا التي تعبر قناة السويس وهم لا يلتزمون بوسائل مصطفي كامل ومحمد فريد, وإن كانوا يتفقون مع مبادئها, إلا أنهم يحملون العرفان بالجميل والصداقة, كما أنهم أعربوا عن رغبتهم في السفر إلي لندن ليتقدموا بمطالبهم, ولقد نددت بأقسي الألفاظ الحركة الوطنية السابقة, كذلك أبديت لهم نقدا صريحا لوجهات نظرهم, وكررت لهم التحذير من أن عليهم أن يتحلوا بالصبر وأن يضعوا موضع الاعتبار الكثير من التزامات صاحبة الجلالة. والواقع أنه حتي هذا الموقف اللامبالي من الحركة الوطنية, وتجاهله التام لمطالبها, لم يعجب المسئولين في الخارجية البريطانية, وتعليقا علي برقية السير وينجت كتب رئيس القسم المختص بوزارة الخارجية البريطانية مذكرة سرية يقول فيها: ليس بين الوطنيين الثلاثة المذكورين من يستطيع أن يزعم أنه ممثل للشعب المصري, فسعد زغلول وعبدالعزيز فهمي محاميان وسجلهما معروف, وربما كانا يمثلان طبقة معينة من المثقفين, ولكن سعد زغلول قد حط من شأن نفسه كثيرا, وقد أدهشني أن أري هذين الرجلين, فهو من أصحاب الأراضي الواسعة في مديرية المنيا, وهو عضو في الجمعية التشريعية ولكنه عارض كل اقتراح للإصلاح كضريبة الدخل, أورسوم التركات, أوالقيود الخاصة بزواج الأحداث, وهو متعصب ولا يتكلم إلا العربية وغير محبوب لدي الفلاحين, وأنه لمن المؤسف أن يلقي هؤلاء المصريون الثلاثة أي تشجيع من السلطان, وكذلك مما يؤسفني أن سير وينجت لم ينبذ هؤلاء الوطنيين بطريقة أشد حزما من الطريقة التي استخدمها, وأنه لمن غير المناسب أن يحضر هؤلاء المصريون إلي هنا في الوقت الحاضر. وأخذت وزارة الخارجية البريطانية بوجهة النظر هذه, وأرسلت إلي المندوب السامي البريطاني في مصر غاضبة الرسالة التالية: لا يمكن أن نخفي أن تقدم أي من الزعماء المصريين المسئولين بمثل هذه المطالب المتطرفة قد أثار شعورا بالاستياء هنا, وكما تعرف فإن المرحلة التي يمكن فيها تحقيق الحكم الذاتي لم تحل بعد, وأن حكومة جلالته لا تنوي التخلي عن مسئوليتها عن النظام والحكم في مصر. ليست هناك غاية مفيدة يمكن أن تتحقق بالسماح للزعماء المصريين الوطنيين بالحضور إلي لندن, وتقديم مطالب غير معقولة لا يمكن قبولها. ثم عادت الخارجية البريطانية لتحذر السير وينجت في برقية أخري عاجلة جاء فيها ما يلي: ألاحظ أن الزعماء المتطرفين يستغلون استقبالك لهم في دار الحماية, وهو عمل جانبه التوفيق, وأنك بطبيعة الحال ستوضح بشكل كامل أنك تنظر إلي أعمال الإثارة هذه وإلي جميع من يشتركون فيها نظرة عدم الرضا, أن زعماء الحركة ليس لهم وزن كبير, ولكن الحركة يمكن أن تصبح ببساطة حركة خبيثة, بل يمكن أن تتسبب في فتنة إذا ما سمح لها بأن تمضي دون أن تكبح. وبخط يده علق وزير الخارجية البريطانية علي البرقية قائلا: إن سير وينجت يبدو ضعيفا إلي درجة مخزية.
* نص قانون الوفد
وبينما الصراع يجري بين الخارجية البريطانية المتشددة من ناحية ومعتمدها الضعيف في القاهرة من ناحية أخري, كان سعد باشا زغلول يسير قدما في طريق الزعامة وإكسابها المحتوي الرسمي والقومي معا, وكانت خطة سعد تتلخص في جمع توكيلات من الجماهير ليستخدمها في تزعم حركة من الأعيان. وعندما تألف الوفد المصري نص في المادة الأولي لقانونه أنه مكون من حضرات سعد زغلول باشا, وعلي شعراوي باشا, وعبدالعزيز فهمي بك, محمد علي بك, عبد الله المكباتي بك, محمد محمود باشا, وأحمد لطفي السيد بك, وإسماعيل صدقي باشا, وسينوت حنا بك, وحمد الباسل باشا, جورج خياط بك, محمود أبو النصر بك, مصطفي النحاس بك, والدكتور حافظ عفيفي بك. وطبقا لما جاء في المادة الثانية أن مهمة هذا الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر استقلالا تاما, وجاء في المادة الثالثة أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون بها رأسا أو بواسطة مندوبيهم بالهيئات النيابية. كما نصت المادة الخامسة منه علي أنه لا يسوغ للوفد أن يتصرف في المهمة التي انتدب لها, فليس للوفد ولا لأحد من أعضائه أن يخرج في طلباته عن حدود الوكالة التي يستمد منها قوته, وهي استقلال مصر استقلالا تاما وما يتبع ذلك من التفاصيل.
ولنا عدة ملاحظات علي هذا القانون, أهمها أن الوفد كله كان مشكلا من باشاوات وبكوات, وأكثريتهم العظمي من الإقطاعيين, وتشكلت لجنة أخري مركزية مكونة من 43 عضوا, كان عدد كبار الملاك فيها 36 فردا أي بنسبة 83.31%, وثانيا نلاحظ أن سعد باشا كان قد وازن نفوذ كبار الملاك بنصه علي أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر, وحدد مهمتهم بالسعي لاستقلال مصر استقلالا تاما, وجردهم من أي حق في المساومة علي هذا الهدف, وبهذه التركيبة خاض سعد المعركة, وصمم أن يرفع صوته منددا بالحماية ومطالبا بسفر الوفد لعرض القضية علي مؤتمر الصلح, لكن السلطات البريطانية رفضت وبدأ سعد في المقاومة, لكننا نلاحظ أن هذه المقاومة علي الرغم من أهميتها, إلا أنها لم تخرج عن كونها مجرد مقاومة مكتبية تشمل بيانات وخطبا وبرقيات ورسائل ومحاضرات, ولعله من قبيل المصادفة أن سعد باشا الذي وجه في هذه الفترة بالذات عشرات البرقيات إلي ويلسن والمعتمدين الأجانب, ووجه عدة نداءات أخري إلي الأجانب والصحف الأجنبية لم يوجه نداء واحدا في هذه الفترة إلي شعب بلاده, لكن ذلك لا يقلل من أهمية إصرار سعد علي رفع صوته في مجابهة الاحتلال. ووجه سعد ثلاث برقيات إلي الرئيس الأمريكي ويلسن قال في الأولي منها الآتي: إن مصر لم تقبل مطلقا الحماية التي ليست إلا عملا من الأعمال الحربية, والتي مع كونها مناقضة لآمالنا في الاستقلال, فهي مناقضة أيضا للحقوق التي كسبناها من تركيا من زمان بعيد.
والجدير بالذكر أن ويلسن لم يوجه إلي سعد أي رد علي البرقيات الثلاث, وإلي الأجانب وجه سعد نداء يقول فيه: نحن نبغي أن نستقل بشئون بلادنا في شكل حكومة دستورية حتي تصلح من حالتنا الاجتماعية ما يفسده عادة حكم الأجنبي عمدا ومن غير عمد, وينبغي أن نظل كاسبين ثقة الأجانب نسهل لهم ما يزاولونه من الأعمال التجارية والصناعية في بلادنا, ونرعي ما لهم من الامتيازات خير رعاية. ووجه برقية إلي كليمنصو رئيس مؤتمر السلام جاء فيها: مهما يكن من الاتفاق المزعوم حصوله علي المسألة المصرية, فإن الحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا مناقض لما اتفق عليه جميع الحلفاء, باسم الإنسانية التي تأبي أن تكره الأمم علي أن تنتقل من يد إلي يد أخري, كما تنتقل ملكية السلع. نناديك من وراء البحر ألا تتخذ سكوتنا الإكراهي الذي هو النتيجة الطبيعية لحبسنا في حدود بلادنا دليلا علي رضانا بسيادة الغير علينا, وأن لا تسمح بالحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا.
* اندلاع الثورة الشعبية
كان نبأ اعتقال سعد وأصحابه قد سري بطيئا ومتناقضا في اليوم الأول, لأن القيادة العسكرية البريطانية حظرت علي الصحف نشره أو مجرد التلميح إليه, ولكن أعضاء الوفد عرفوا النبأ في يومه, ثم علم به طلبة المدارس العليا وغيرهم في اليوم التالي, وسري في أنحاء القاهرة ومنها إلي الأقاليم, وأضرب طلاب المدارس العليا في صباح يوم الاثنين العاشر من مارس عام 1919, وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج علي اعتقال الزعماء, وعلي كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها, وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلي بيان حقها وتقرير مصيرها. وأضرب عمال الترام بعد الظهر, ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشروأصبحت الدكاكين كلها مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا المحال الأوروبية, وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس والجامعات وطلاب الأزهر, وطوائف شتي من الجماهير, فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير, ولا بين مشترك في المظاهرات أو غير مشترك, وكانت نقابات المحامين قد أعلنت الإضراب العام, فانقطع المحامون عن المحاكم, واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم, فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل, واضطرمت وقدتها (أي اشتعالها) بدلا من أن تخمد, وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء المفاجأة, فأصبحوا لا يميزون ولا يطيقون مجرد النظر إلي أي تجمع من الناس, ففي يوم الجمعة الرابع عشر من مارس, أطلقت السيارات المدرعة نيرانها علي حشد كبير بجوار المسجد الحسيني, فقتلت منهم بضعة عشر رجلا وجرحت أفرادا كثيرين ولم يكونوا في مظاهرة, ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء صلاة الجمعة. وتعددت المظاهرات في مدن القطر فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة, وشاع خبر القتل وإطلاق الرصاص في أنحاء الأقاليم, فانفجر السخط الذي طال كتمانه في الصدور, وانفجرت الثورة في كل مكان, علي أنه من الخطأ أن يقال إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد, أو أن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة, فالمظاهرات كانت مثل الشرر الذي يتطاير في البداية من فوهة بركان يغلي علي وشك الانفجار, فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت اندفاعا يدل علي عمق مكامنها وتأجج وقودها, أيقن أنها قوة لا تحبس طويلا, وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات, فصبر الناس زمنا علي مظالم الحرب العالمية الأولي وآثارها التي بلغت كل دول العالم بما فيها مصر, ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة, فإذا بهم يتجرعون مرارة الخيبة ويتوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية من الفقر وسوء الأحوال عموما, وزاد من المرارة أنهم يعانون هذا الثقل في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الأصداء بالظفر والرجاء, وأنهم يطلبون أمرا يسيرا هو حق الشكوي والاحتجاج فإذا بهم يجابهون بالتهديد والإقصاء عن البلاد.
وعندما شاع خبر إطلاق الرصاص علي المتظاهرين, وشاعت أخبار الموتي والمعتقلين من الطلاب والشبان, طغي الغضب وعم, والغريب أن ظهوره كان عاما وعلي نمط واحد في جميع أنحاء البلاد بغير تدبير ولا سابق اتفاق. فبدأ انقطاع السكك الحديدية بين طنطا وتلا, في صباح يوم الخميس الثالث عشر من مارس 1919, ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة, وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكك الحديدية, حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين, ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود, وهو إعاقة القطارات المسلحة والفرق الجوالة لعساكر الإنجليز عن الطواف بالمدن والقري لجمع السلاح وتفتيش المنازل وإيذاء الناس, إلا أن الباعث الأكبر للتحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم, اندفاع الساخط الذي يحار فيما يصنع وهو ساخط, وكأنما هو في هذه الثورة الجامحة يريد أن تسمعه الدنيا, ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره, فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان, لأنها هي كل ما يستطاع في تلك الحالة, وظل الإنجليز ضالين في فهم شعور هذه الأمة, يفسرون أعمالها بأسباب المصالح ولا ينظرون إلي بواعثها النفسية, كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير, فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية.
* أحداث الشغب بالمحافظات
تلك الفترة شهدت مديرية المنيا بعض حوادث الشغب, فثار الأهالي من جراء حادثة وقعت بالقطار القادم من الصعيد, وترتب علي ذلك أن قتل بعض الضباط والجنود الإنجليز. وعندما أنزلت جثث القتلي بمحطة المنيا, جاء أحد الإنجليز بمصور لالتقاط صور القتلي لإرسالها إلي أمريكا, لتوثيق ما حدث للإنجليز علي أيدي المصريين, وعلم الأهالي بذلك فدخلوا منزل المصور وأعدموا أجهزة التصوير, ولما كانت النفوس مليئة بالحماسة ومشتعلة بالوطنية, فقد نشبت الثورة في المنيا, وبالغ بعض الأهالي في ثورتهم, فحاولوا الهجوم علي بيوت الموظفين الإنجليز, ولكن بعض الأعيان تصدوا لهم ومنعوهم من ذلك, وكان في مقدمة هؤلاء: الدكتورمحمود بك عبدالرازق وتوفيق بك إسماعيل نسيب علي شعراوي باشا, حيث آوي توفيق بك بعض الأجانب عنده, وعرض نفسه بذلك لغضب مواطنيه وهجومهم, أما الدكتور محمود عبدالرازق فوقف أمام باب منزل أحد الموظفين الإنجليز, وفتح صدره أمام الناس قائلا بصوت عال للغاية: لا تقتلوه إلا بعد أن تقتلوني أنا, وبدأ هو وبعض الأعيان يهدئون الخواطر الثائرة بإيهام أهالي المنيا بأن المديرية استقلت تماما من القيادات الأجنبية, وأداروا بالفعل دفة شئونها لمدة أسبوع لم يحدث خلاله أي حادث إجرامي, ومع ذلك كان جزاؤهما فيما بعد الحكم عليهما بالسجن لمدة ثلاث سنوات, وارتكب الإنجليز بعد ذلك كثيرا من الفظائع الإجرامية التي لا تمت بأي صلة للإنسانية, ومن ذلك أنهم طافوا بالقري يضربون الرجال بالسياط, ويسطون علي البيوت ويعتدون علي الحرمات ويقتلون المواشي والطيور, ومما يؤسف له, أنهم عند إجراء التحقيق بعد ذلك أمام النيابة, وجدوا مواطنا مصريا بسيطا يقوم بوظيفة شاهد الملك ووقف في صف الإنجليز, ووجدوا من بين ضباط الشرطة من كان أقسي علي مواطنيه من الإنجليز أنفسهم.
وكانت هذه الأحداث تزكي نيران الثورة في نفوس المصريين, وبخاصة بعد أن لمسوا مواقف مضادة من بعض الأجانب الذين عاشوا بينهم وربطت بينهم المصالح المشتركة والمحبة والصداقة أعواما طويلة, وكانت بداية هذه المواقف عندما قام شخص أرمني كان يسكن حي عابدين بإطلاق الرصاص من مسدسه بلا مبرر علي مظاهرة سلمية كانت تمر أمام منزله, فأثار ذلك حنق المتظاهرين المصريين المارين في الشارع وغيظهم, فهجموا علي بيته وأحرقوا أثاثه بالكامل, وتخوفت تلك الطائفة من وقتها, من انتقام الأهالي المصريين وثأرهم, وأرادت أن تتظاهر بولائها للإنجليز وتقدم لهم حجة ضد المصريين وسلاحا للدعاية ضدهم بأنهم قوم متعصبون, وأن ثورتهم هذه ذات دوافع دينية وليست لأسباب سياسية, وكذلك تبرأ بعض اليهود من المصريين في ذلك الوقت والتحق كثير منهم بخدمة الجيش البريطاني.
كان الإنجليز بعد اندلاع الثورة قد جاءوا بالجنود من كل ناحية من ممتلكاتهم ومستعمراتهم, وكان هؤلاء الجنود إذا التقوا بشخص من السراة, انقضوا عليه وصوبوا مسدساتهم إلي رأسه أو صدره قائلين له بشراسة: الروح أو المال.
وكان مظلوم باشا وقتها فريسة لبعض هؤلاء ذات ليلة, وهو خارج من كلوب محمد علي, إذ ألصقوه قوات الإنجليز بالحائط وسلبوه ساعته ونقوده, وأصابه الكثير من الرعب لدرجة أنه لم يصدق أنه نجا من هؤلاء القوم الظالمين, كذلك كانوا يخطفون النساء في الشوارع وكانوا يجردون الأقراط من آذانهن فتسيل الدماء منها, دون مبالاة بذلك, وكم تعدي هؤلاء الجنود في المظاهرات علي المواطنين العزل, وذلك حين خرج موكب المظاهرة العامة التي لم تشهد لها مصر مثيلا, والتي ضمت جميع موظفي الهيئات المصرية الرسمية, واشترك فيها الجيش والقضاة والمحامون بملابسهم الرسمية, والموظفون والطلبة, والعلماء الأزهريون, والعمال, ورجال الدين من جميع الأديان, كذلك اشتركت فيها النساء, بعضهن في سياراتهن وعرباتهن, وبعضهن الآخر علي عربات الكارو, وبأيدي الكثيرات منهن الأعلام. وكانت ألفت هانم راتب تمسك بيدها علما صغيرا يرفرف من نافذة سيارتها, وعند مرور المظاهرة أمام فندق الكونتننتال انقض أحد الجنود الإنجليز علي سيارتها, وحاول انتزاع العلم من يدها, ولكنها تشبثت به ولم تمكنه من انتزاعه, ولما كان ذلك علي مشهد من المتفرجين الأجانب, فصفقوا لها إعجابا بها, وثار الجندي ثورة حمقاء وأخذ يجذب العلم منها بقسوة, ويضربها بيده الأخري علي ذراعها ضربات قاسية ليرغمها علي التسليم, ورغم ذلك لم يتمكن من قهرها, وعندما صار أضحوكة المتفرجين أقبل بعض زملائه وأخذوا يطعنون سيارتها.. وأسفرت المعركة بين جنود بريطانيين مسلحين وبين سيدة مصرية عزلاء عن احتفاظها بعلم بلادها, إلا طرفا منه استطاعوا تمزيقه, وبعد انتهاء المظاهرة, ذهبت هذه السيدة إلي منزل هدي شعراوي في حالة انفعال شديد, وطلبت منها الاحتجاج علي هذا الحادث, فكتبت هدي شعراوي في الحال احتجاجا وسلمته لها لتذهب به بنفسها إلي دار المعتمد البريطاني, وتريه كيف اعتدي جنوده عليها وعلي سيارتها, ورد اللورد اللنبي علي المذكرة بما تعود عليه الإنجليز من التنصل من المسئولية قائلا: نأسف لما أصاب السيدة في الطريق العام. وتشير صحيفة المقطم إلي أنه بالرغم من وقار المظاهرة وهيبتها, فإن نظامها وحماستها لم يرق في عين أحد الضباط الإنجليز الذي كان واقفا بفندق شبرد, فما كان منه إلا أن أطلق مسدسه علي المتظاهرين فوقع واحد منهم علي الأرض ميتا, ورغم ذلك حمله بعض الشباب المشاركين في المظاهرة, واستمر باقي المتظاهرين في متابعة سيرهم في نظام شديد, ما دفع الأجانب لأن يصفقوا لهم ويقولوا: تقدموا تقدموا, فالنصر لكم حتما, عندما حاول الجنود الإنجليز استثارة المصريين المتظاهرين, قام أحد ضباط السواري المصريين بضربهم بعصاة, واستطاع بمفرده أن يشتتهم جميعا, فلجأوا إلي حديقة الأزبكية واختبأوا فيها, فكان حقا يوما مشهودا مشرفا لمصر, ولأبنائها الذين كانوا يشتعلون حماسة ووطنية, لدرجة أنهم كانوا يواجهون مدافع الإنجليز بصدورهم, وبلغت الشجاعة بأحدهم وكان طالب بالأزهر أن هجم علي مدفع منها, وضرب الجندي الذي يعمل عليه, ووقف مكانه ليضرب باقي أفراد القوة من العساكر والضباط الإنجليز, ولكن للأسف كان جهله باستعماله سببا في ضربه المفاجئ وموته.وكانت السيدات في هذه الأحوال يصفقن من الشرفات والنوافذ, مستنهضات همم الرجال في هذا النضال الوطني, حتي أن الجنود الإنجليز كانوا من فرط غيظهم يطلقون الرصاص عليهن من النوافذ, ولم تعلن أسماء من أصبن يومها إنكارا للذات وبعدا عن طلب الجزاء أوالشكر, فأصر أهالي الضحايا أن تظل أسماؤهم مجهولة فهذا أقل شئ يقدموه فداء لوطنهم.
* محاولة تشويه الثورة
ويذكر المؤرخون كيف حاول الإنجليز إخماد نيران الثورة بطرق ملتوية, حيث أراد الإنجليز أن يشوهوا جلال الثورة في الخارج, فصاروايعلنون يوما أنها ثورة ضد الأجانب بهدف إثارة الرأي العام العالمي, وفي يوم آخر يسمونها ثورة الأكثرية المسلمة ضد الأقلية من الأديان الأخري. وأثار هذا الكذب والافتراء وسوء التعليل سخط الأقباط والطوائف الأخري, وسرعان ما حدث تآخي بين الجميع, وصاروا يجتمعون في الكنائس والمساجد والمعابد وهم شيع مختلفة, وكان الشيخ يتأبط ذراع القسيس القبطي أو الحاخام اليهودي أمام عدسات المصورين ليظهروا للملأ إتحاد الجميع علي الثورة ضد الإنجليز, وللأسف لم تتعد الاحتجاجات علي هذه التهم أرض مصر, لأن السلطة كانت تراقب البريد المصري للخارج, وكانت الصحف القومية لا تصل إلي أبعد من الإسكندرية, فكان المصريون إزاء هذه الحالة يستخدمون كل الحيل لإرسال الأخبار مع ذويهم المسافرين أوبعض الأجانب حتي يصل صوتهم إلي العالم. وأثار ذلك غضب الإنجليز علي كثير من الأهالي, وكان نصيبهم النفي خارج مصر, وكان الكونت دي كولالتو, من بين الذي حرم عليهم الإنجليز العودة إلي مصر حتي توفي بعيدا, وذلك بسبب مساندته للثورة العظيمة ومحاولاته المستمرة هو وأسرته لدعم المتظاهرين, فاضطروه إلي ترك زوجته العجوز وابنه الوحيد في مصر, ويذكر أنه تقابل مع هدي شعراوي في روما عام 1923 أثناء انعقاد المؤتمر النسائي بها, ولما رأته متألما جدا من هذا النفي المجحف, رغم خدماته الجليلة التي قدمها لمصر, كتبت إلي ولاة الأمور بشأن عودته, ونشرت في الصحف خطاباته التي أرسلها إليها, يطلب فيها إنصافه وتمكينه من العودة إلي مصرالتي يعتبرها وطنه الثاني, ولكن كل ذلك لم يجد صدي وبقي الرجل هناك وحيدا حتي توفي. حدث أيضا أثناء سير مجموعة عساكر إنجليز أن طفلا مصريا مر من فاصل بين جنود القوة, فاغتاظوا لذلك وضربوه ضربا قاسيا, وحدث ذلك علي مرأي من أحد الموسيقيين الطليان, فأثر فيه هذا المنظر, وانتهرهم بشدة قائلا: أليست في قلوبكم رحمة, فضربه ضابط إنجليزي بمؤخرة البندقية علي رأسه, فهوي ميتا, ولما شاع خبر ما حدث لرجل دفعه شعوره الإنساني للدفاع عن طفل بريء, أراد وفد نسائي إظهار مشاعرهن نحو هذا الشهيد, فأرسلن باقة كبيرة من الزهور لتوضع علي قبره باسم نساء مصر, وذهبن إلي السفارة الإيطالية بالقاهرة للتعزية فيه, فشكرهن ممثل الدولة الإيطالية ورجاهن في الوقت نفسه ألا يطيلوا مثل هذه المظاهرات خوفا من خلق مشاكل مع دولة بريطانيا العظمي, وهو ما استرعي دهشة الوفد النسائي جدا!!
* الإضراب العام
من المظاهر الكبري التي كان لها أثرها في خدمة القضية المصرية, ذلك الإضراب العام لجميع طوائف الموظفين والعمال والطلبة, واستمر هذا الإضراب مدة طويلة, حتي امتلأت الشوارع بالفضلات والأحجار ما اضطر السلطة الإنجليزية إلي تنظيف الشوارع, ولما أضرب الحوذية والسائقون, كان الإنسان لا يسمع صوتا للترام أو العربات أو أي وسيلة من وسائل المرور, وأمام الشلل الذي أصاب المواصلات, استدعت السلطة أعضاء الوفد لتطلب منهم كتابة نداء وتوجيهه إلي الأهالي بطلب الكف عن هذا الإضراب, وإلا اعتبرتهم مسئولين عنه وعن نتائجه, واجتمع هؤلاء الأعضاء بعلي شعراوي باشا وكيل الوفد في بيته قبل توجههم إلي مركز رئاسة السلطة الإنجليزية بفندق سافواي الذي كان الإنجليز قد احتلوه فعليا, وترك الباشا زملاءه المجتمعين في الدور الأول من منزل وكيل الوفد المصري, وصعد إلي الطابق الثاني ليقول لحرمه السيدة هدي شعراوي: ربما تعتقلنا السلطة, فإذا حدث ذلك, فأرجو أن تسلمي هذا المبلغ إلي حرم سعد باشا, فربما تحتاج إليه في غيبتي, وكان سعد باشا في المنفي في ذلك الوقت, ولما نزل, توجهت زوجته بسرعة إلي النافذة لتراه وهو خارج يتبعه كل أعضاء الوفد, وبعضهم يبتسم ابتسامة مريرة, وبعضهم الآخر مضطرب الخاطر, وأكثرهم يحملون معاطفهم وعصيهم مستعدين للنفي أولما هو أكثر من ذلك, إذ كان قد أذيع في ذلك اليوم أنهم سيعدمون رميا بالرصاص أو ينفون, لكنهم بعد أنهم أدخلوا غرفة, دخل عليهم قائد السلطة, ودون أن يحييهم ألقي عليهم بضع كلمات حادة, وأراد أن ينصرف دون أن يجيب عن أي سؤال, فقال علي باشا شعراوي باللغة العربية: أنا لم أفهم من كلامه شيئا أين هو ذاهب؟, فلما سمعه القائد يقول هذه الكلمات بحدة, عاد ليسأل عما يريده, فلما أفهمه كلام الباشا, أمر بأن تترجم له أقواله, وألح عليهم في أن يكتبوا هذا النداء, فوافقوا علي كتابة ما يصون كرامتهم ولا يتنافي مع وطنيتهم, ومن مظاهر الوفاء والإخلاص الصادق من سيدة فرنسية صديقة لهدي شعراوي, أنها لما سمعت ما أشيع من أن زوجها سيحكم بإعدامه, وأن السلطة وضعت أمام باب داره مدفعا تهديدا لهم, جاءت علي قدميها من روض الفرج, حيث كانت تسكن إلي بيتهم بقصر النيل, فوصلت في المساء, ولما دخلت عليهم سقطت علي الأرض من فرط التعب والتأثر, وصارت تبكي وهي تقول: سمعت عنكم أخبارا مزعجة, فجئت رغم إضراب السائقين مشيا علي قدمي لأطمئن عليكم, هذه السيدة الفاضلة هي مدموازيل جان ماركيز التي أصحبت محررة بمجلة الإجبسيان المصرية التي نصدرها باللغة الفرنسية.
* المرأة والثورة
ظهر في اليوم التالي ذلك النداء الذي طلب من أعضاء الوفد نشره, فلم يؤثر في الرأي العام, لأن الجميع كانوا علي علم بأنهم أرغموا علي إعلانه, واستمر الإضراب يتسع حتي عم كل الفئات والطوائف والمجالات, وحدثت أزمة جديدة وقعت فيها البلاد, فضغطت السلطة علي الحكومة لتهدد المواطنين بالفصل والعقاب إذا لم يكفوا عن إضرابهم, وحاولت حكومة رشدي باشا أن تسمح لهم بالعودة إلي أعمالهم قبل أن تضطرهم القوة إلي ذلك, فثاروا ضدها ونادوا بسقوطها وجمع رشدي باشا كبار الموظفين مرة أخري وأسدي إليهم النصيحة, فلم يقبلوها. وقامت السيدات تؤيدن هذا الإضراب, وتشجعن الموظفين علي عدم العودة إلي أعمالهم حتي تصل البلاد إلي نتيجة. وكتبت لجنة الوفد للسيدات إلي رشدي باشا خطابا تطلب منه تقديم الاستقالة إذا كان عاجزا عن تسيير دفة الأمور, وعلمت أنه كان عازما علي تقديم استقالته, فلما وصله الخطاب قال: النساء أيضا يطلبن استقالتي, وهأنذا سأقدمها, فلتطمئن نفوسهن, وقدم استقالته في الليلة نفسها, ولو أنه كان قد قدمها بعد الإنذار, لكان ذلك أفضل, لأنها كانت تعبر في ذلك الوقت عن الاحتجاج, ولو أن الإضراب انتهي قبل الإنذار كما نصح هو لكان أجدي, وبعد استقالته تخوفت السيدات أن يتغير الموقف, فقامت كثيرات منهن بالوقوف علي أبواب الدواوين لمنع الموظفين المتخاذلين من الدخول إلي مكاتبهم, وللأسف فإن كبار الموظفين ذهبوا إلي دواوينهم, وإن كان عدد كبير من صغار الموظفين أصروا علي موقفهم, وظلوا مضربين حتي فصلوا من وظائفهم, وكانت النساء اللاتي تولين الوقوف أمام الدواوين لمنع الموظفين من الدخول, ينتزعن أساورهن وحليهن, ويقدمنها لهم قائلات: إذا كان أحدكم في احتياج لمرتبه فليأخذ هذه الحلي, ولا تسودوا وجوهنا بالرجوع إلي أعمالكم بعد صدور الإنذار البريطاني, وللأسف فإن هذا الأسلوب لم يؤثر في بعضهم, فدخلوا إلي مكاتبهم وقدموا اعتذارات مختلفة يبررون بها غيابهم, وإن كان عذرهم الوحيد هو أنهم صمدوا طويلا دون فائدة, وليس لهم من سند في الحياة إلا مرتباتهم البسيطة ولكن هذا لم يوقف الثورة ولا الإضراب, بل زادهما انتشارا. وكانت المنشورات التي تطبع سرا وتوزع علي المواطنين أثناء الثورة الوطنية هي إحدي الوسائل الفعالة في تبصير الرأي العام بما يجري, وتوجيهه إلي القيام بما يراد منه, ومن ذلك المنشور رقم 6 الذي أصدره الطلبة عن اجماعهم علي الإضراب, وجاء فيه: أولا إننا ما أضربنا إلا لطلب الاستقلال التام أوالبت في قضيتنا أمام مؤتمر السلام, وحتي الآن لم نسمع شيئا يتفاءل منه عن مسألتنا المصرية. ثانيا أن الفظائع التي ترتكب في أنحاء البلاد والتي تصيب مواطنينا وإخواننا, توهن النفس وتجعلها تتمرد علي كل شيء إلي إنهاء هذه الفظائع المنكرة. ثالثا أن عدم إلغاء الأحكام العرفية لا يدع مجالا لوصول الأخبار لدينا عن مصرنا العزيزة, ولا يبعث فينا روح الطمأنينة عن وفدنا المصري, فنحن اليوم قلقون والقلق والدرس ضدان لا يتفقان. رابعا إلقاء الشبهات علي كل بريء, ومعاملته معاملة قاسية, لا سيما سجن وجلد الطبقات المحترمة الراقية كما فعلوا مع موظفين وطلبة في صفط الملوك بالبحيرة وأسيوط والجزيرة وغيرها. وجاء في المنشور رقم 7 الذي أصدرته اللجنة المستعجلة لطلبة المدارس العليا ما يلي: لقد آن أيها الأبطال أن تجردوا سلاحكم في وجه خصمكم العنيد, حيث لم يرهبه التهديد, آن لكم أن تضربوا لفك قيود إخوانكم في الوطنية ممن اعتقلوا, لاستمرارهم مضربين تنفيذا لقرار اللجنة, فإن صمم كل منكم علي الإضراب وعادت إليه شهامته الأولي, وكلكم وطنيون مخلصون, اتحدت قلوبكم عن بعد, وأضربتم جميعا علي غير موعد, فنستحلفكم باسم الوطنية الصادقة, باسم الشرف والواجب, باسم مصر, ألا تتركوا أحدا من أبنائها إخوانكم فريسة لعدوكم, ولا تصدقوا للإنجليز وعدا, فهم كاذبون خادعون.
* جنازات الشهداء
كانت جنازات تشييع الشهداء ضحايا التظاهرات إلي مثواهم الأخير جانبا آخر للتعبير عن روح الثورة ووحدة أبناء هذا الوطن, فالكل يسير في احتفال الجنازة شخص واحد لا فرق بين رجل وامرأة أومسلم ومسيحي, وكانت كل جنازة علي حدة تضم الألوف المؤلفة من المشيعين من جميع الطبقات والفئات الاجتماعية والثقافية والسياسية, وكانت بعض الجنازات تضم عدة شهداء, ففي يوم الجمعة الموافق 11 أبريل عام 1919 شيعت بعد صلاة الظهر جنازات أربعة عشر شهيدا من شهداء التظاهرات, وكان ضمن شهداء تلك الجنازة الكبيرة الشهيدة شفيقة محمد, وخرجت جنازات الشهداء الأربعة من المستشفي إلي مثواهم الأخير مجتمعة بعضها وراء بعض في مشهد كبير مؤثر يتقدمه جماعة من الطلبة, يتبعهم صفوف منتظمة من العلماء والقساوسة ثم طلبة الأزهر, وقد تراصوا في صفين, تليهم فرق الموسيقي ذات النغم الحزين والعلم المصري مرفوعا أمامهم, وطافت الجنازة بميدان الأوبرا وشارع قصر النيل في منطقة وسط المدينة, ثم شارع المدابغ والبساتين والمنيرة بالسيدة زينب, وفي النهاية عادت إلي عابدين والعتبة الخضراء مرورا بشارع محمد علي, وأخيرا إلي مثواهم الأخير. وفي اليوم التالي السبت الموافق 12 أبريل 1919 اشتركت جماعة من السيدات وسرن مع الرجال والأطفال في تشييع جنازة حاشدة تضم أربعة شهداء آخرين, وسار المشهد خارجا من المستشفي متوجها إلي مسجد الإمام الشافعي, ومن هناك اتجه المشيعون إلي منازل كل فقيد من الشهداء, لأداء واجب العزاء تجاه أهالي الشهداء, بعدها انصرفوا بالهتافات العالية للحرية لمصر والفخر للشهداء.
** مراجع الدراسة:
* الثورة المصرية عام 1919- المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي
* حوليات مصر السياسية- أحمد شفيق باشا
* منشورات اللجنة المستعجلة لطلبة المدارس العليا المحفوظة في سجل الثورة بدار الوثائق
* جريدة المقطم- عدد 12 أبريل عام 1919
* سعد زغلول سيرة وتحية- عباس محمود العقاد
الحلقة الأولى
مصر تحتفل بمئوية ثورة عام 1919