البداية
(لوقا14:25-30)
وكان جموع كثيرة سائرين معه, فالتفت وقال لهم: إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته, حتي نفسه أيضا, فلا يقدر أن يكون لي تلميذا. ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا. ومن منكم وهو يريد أن يبني برجا لا يجلس أولا ويحسب النفقة, هل عنده ما يلزم لكماله؟ لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل, فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به, قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل
والمجد لله دائما
الخبزة الثالثة:
التوبة .. خطوة حب
خطية الإنسان أقامت جدارا فاصلا بينه وبين الله. خطية الإنسان هي الكارثة الكبري في حياة البشرية, فمهما تعددت الكوارث في حياة الإنسان إلا أن الخطية هي الكارثة الأولي في حياة الإنسان, لأنها تحرمه من النصيب السماوي. ولذا صارت الخطية هي سبب سقوط الإنسان, وبالتالي لا يقف أمامها إلا بالتوبة الصادقة, كل يوم وفي كل ساعة, أي هي عمل الإنسان في كل حياته.
نلاحظ أن الخطية جعلت الإنسان يفقد صورته الإلهية بعد أن كان يتمتع بهذه الصورة التي خلقه الله عليها, وكرمه وجعله تاج الخليقة. فبعدما أوجد المملكة أي الخليقة خلق الله الملك الذي هو الإنسان, ولكن هذا الإنسان سقط من رتبته بالخطية وفقد صورته الإلهية, فلم تعد له صورة البهاء وصورة البراءة.
أيضا الخطية جعلت الإنسان يموت موتا روحيا, فهو يعيش الحياة ولكنه ميت روحيا, مثل إنسان لديه شلل في ذراعه, فهذا الذراع لا يعمل, رغم أنه موجود بحجمه وشكله, لكنه فاقد الحركة والحيوية. هكذا الموت الروحي للإنسان, فهو حي من الناحية البيولوجية, لكنه ميت من الناحية الروحية.
الخطية تجعل الإنسان في مواجهة مع الله, وتجعل الإنسان يقف في يوم الدينونة, ويقول للجبال: اسقطي علينا! وللآكام غطينا (لو23:30), فكيف يقف الإنسان ويواجه الغضب الإلهي؟ سوف يقول الله للأشرار: اذهبوا عني يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته (مت25:41).
إذا الخطية هي التي تحرمك من مسيحك ومن الشبع به, فتظل في حالة من القلق والجوع, فجميعنا جرب إحساس الجوع في الجسد, والإنسان الذي يعيش في الخطية يصير من جوع إلي جوع, ومن تعب إلي تعب.
إحساس الجوع الجسدي هو أقرب تشبيه لإحساس الجوع الروحي الذي يعيشه الإنسان الخاطئ, وكأن الإنسان صار يسبح في بحر من الخطايا, وصار الألم يلازمه ليلا ونهارا, فهل في الجنة كان يوجد قلق؟ بالطبع لا, فعندما وجدت الخطية وجد القلق.
هناك تساؤل مهم وضروري, وهو: ما رأيك في رسم دائرة بدون مركز؟
باطلبع لن تكون هناك دائرة, وبالمثل لن تكون هناك حياة مركزية للإنسان لو لم يكن مركزها المسيح, وهذا ما نسميه مركزية التوبة.
عندما يستبدل الإنسان مركزية المسيح بمركز آخر وهو ذات الإنسان أي شخصه ونفسه, سيعيش في خطايا كثيرة من الشهوة والسلطة والمال ومطالب الأرض ومغريات الحياة, حتي أن ذات الإنسان تصير له هي كل شئ, فيري الوجود من خلاله هو ومن خلال نفسه, فتكون النتيجة أن الذات تجعل الإنسان يغرق, ثم يبعد ويعيش في دوامة لا يعرف أن يخرج منها إلا إذا جاء المسيح واحتل هذا المركز, فيجعل حياته منتظمة, فوجود المركز يجعل الدائرة سليمة, ولكن غياب المركز يجعل حياة الإنسان غير سليمة.
إن الذات يمكن أن تحارب أيضا الذين تركوا كل شئ, مثل الآباء الرهبان الذين تركوا العالم بمحض اختيارهم وذهبوا إلي البرية, لكي يعيشوا في فقر اختياري وفي حياة الطاعة والبتولية المقدسة, فأحيانا تسقطهم ذواتهم.
من المستحيل للإنسان أن يري خطاياه إلا إذا جاء في نور المسيح.. طالما الإنسان بعيد في حياته عن مركزية المسيح ونور المسيح, فلن يري خطيته, وإن ظل بعيدا سيزداد مرضه ويتسع.
يقول القديس أغسطينوس في كتاب الاعترافات: آه ما أحسن الاعتراف بين يديك, لأني عندما أقر لك بخطاياي, ترسل إلي رأفتك شعاع نور, فأرتد خجلا من نفسي, وأراني مذنبا, وأراك كل الحب, وفيك يجب أن أضع أفكاري وعواطفي وملذاتي. وفي موضع آخر يقول: فتشت عنك كثيرا أيها الجمال غير المدرك, وأخيرا وجدتك في قلبي.
هذه هي التوبة: أن يأتي الإنسان بإرادته إلي شخص ربنا يسوع المسيح راكعا, باكيا, ومقرا بخطاياه. كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: أن تخطئ فهذا ضعف بشري, أما أن تستمر في الخطية فلا يكون الأمر بشريا بل شيطانيا. فأنت بهذا تكون قد سلمت ذاتك للشيطان. وحروب الشيطان ليست قليلة وهي تصيب الإنسان: كبيرا كان أو صغيرا, وتسقطه عندما يسلم ذاته في يد عدو الخير.
اسمع صرخة التوبة الجميلة التي قالها داود النبي: أحبك يارب, يا قوتي (مز18:1), فليس في ذاتي قوة بل ضعف, وأنت الوحيد ومن خلال حبك وليس من خلال استحقاقي, سأقوم وآتي إليك وأترك خطيتي.
ربما طول زمن الخطية يتعب الإنسان, ويبدأ يدخل من القلق إلي حالة الشك في محبة الله. فالخاطئ لا يعرف أن ينام في راحة, لأن الخطية تخطف النوم من عينيه وتخطف راحته, أما الإنسان التائب حتي وإن نام ساعات قليلة فهذه الساعات تكون راحة له.
هناك ثلاث صلوات يسمونها ملابس الصلاة, اللازمة للدخول لجو الصلاة, وهي:
1- ثوب الصلاة: وهي الصلاة الربانية التي تشمل حياة الإنسان.
2- منطقة الصلاة: وهي صلاة الشكر التي تحيط بالإنسان حتي يتشدد.
3- حذاء الصلاة: وهو مزمور التوبة الذي يرتديه الإنسان في قدميه المجرحة بأشواك الخطية.
كأن الإنسان بهذه الأجزاء يقف يصلي, ويقدم مشاعر توبة صافية حقيقية من خلال مزمور التوبة.
بالطبع لا أظن أن داود النبي بعد أن أخطأ وقف وقال المزمور الخمسين, مثلما نقرأه اليوم.. أتخيل أن هذا المزمور قاله بدموع, واستغرق وقتا طويلا, وفي ظني كان يقول كلمة ارحمني ويصمت وتتساقط دموعه, ثم يبكي ثانية وثالثة.. وصار المزمور وكأنه ممزوج بدموع التوبة, وصار المزمور عنوانا للتوبة مع مزامير أخري.
والكتاب المقدس كله يتكلم عن التوبة كموضوع حياة الإنسان.
+ مثال للتوبة من العهد الجديد:
في العهد الجديد يوجد (لوقا 15) نسميه أصحاح التوبة, ويتكلم عن الدرهم المفقود, الخروف الضال, ثم الابن الضال. ويتحدث عن الابن الضال بإسهاب, كما نصلي بمثل الابن الضال في الأحد الثالث من الصوم الكبير.
أهم ما في هذا الموضوع أن الابن الضال الذي لا نعرف اسمه -لأنه ينطبق علي أي واحد فينا- هذا الابن الضال فقد كل شئ في حياته (بيته, صحته, أسرته, أمانه, ماله, شعبه), إلا شيئا واحدا وهو الرجاء. وهو يمثل الإنسان الخاطئ الذي فقد بالخطية كل شئ, ولكنه لم يفقد شيئا واحدا وهو الرجاء.
عندما أحس الابن الضال بالجوع الجسدي, وكان يشتهي طعام الخنازير بدأ يقلق ويعقد مقارنة بين معيشته الحالية ومعيشته في بيت أبيه, لذا نراه يقف ويكلم نفسه, ويرفع صلاته وينفذ الأمر ويقول: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا (لو15:17), واكتشف أن حاله بشع, فأخذ قراره: أقوم وأذهب إلي أبي (لو15:18), وهذه عبارة صلاة وعهد أمام الله.
التوبة هي أن يرجع الإنسان إلي نفسه, يقر بأتعابه وخطاياه, أما إن أحس الإنسان أن حاله سليم, وأنه أفضل من آخرين, فسيظل في خطيته.