بدا لي وجه_ بعينيه المحدقتين نحو السماء، شاحبا أكثر من أي يوم آخر، تأملته من شرفتي بحزنا وشغف وهو “يهرش” رأسه بيديه الصفيريتين فيما يستند على سيارة قديمة، فتح فمه، ولوهلة ظننت أنه سيصرخ، ولكنه أخرج آنه أتت من أعماق معاناته فأخترقت قلبي، فهو كائن يطل الشقاء من كل تفاصيله بقوة… بداية من عينيه الدامعتين ووجه الذي أختلط به الحزن بالجلد وصوته الأجش وأسلوبه الفظ، وملابسة المهلهلة، وحذاءه الممزق، وجسده المرتعش، وصولا للعبوس الذي بدا كجزء من ملامحه، وإن لم يفلح في إخفاء بقايا جمال طفولة غائرة …..
فدفعتني حيرتي أن أسأل نفسي …
ما الذي مر بهذا المسكين الصغير حتى يتحول إلى هذا الحال ؟!
كم من مآسي تبارت في هدم روحة وطفولته ؟!
كم من تفاصيل مرعبة مرت به لكي يصل إلى هنا ؟!
كم من أحلاما نسفت نفسها في طريقه من أجل لقمة العيش ؟!
لم يوقفني عن شرودي والغوص في تأمل هذا الصغير سوى صوت باب منزلي وأنا أغلقه لكي أذهب لأتحدث إليه …فدنوت منه وأعطيته بعض المأكولات ولكنه رفض فى عفة نفس قائلا أنه لديه الكثير من الطعام هناك مشيرا إلى “الجراچ القديم ” ، وسألني إذا كنت أرغب أن يشترى لي أي شيء أو يساعدني لإخراج سيارتي من الجراچ فشكرته واسترسلت في الحديث معه لعلني أعرف شيء عن حياته، فروى لي قصته بإجاز وكأنه ينتظر منذ زمن بعيد أن يسأله عنها أحد .
فروى لي أن شخصا يدعى “عم صالح” أتى به إلى هنا منذ ثلاثة سنوات، لكي يعمل مع “عم محمود” في هذا الجراچ لينظف السيارات ويراقبها طوال الليل والنهار في مقابل أن يعطى “عم محمود” ﻟ ” عم صالح” بعض النقود شهريا ويعطيه هو خمسة جنيهات ليشترى منها “أكله ودخانه” ، وبالرغم من انزعاجي من فكرة أنه يدخن وهو مازال في الثامنة من عمره لكن بساطته في الاعتراف بذالك أحسسني أن الأمر أصبح أقل من العادي بالنسبة لهؤلاء الأطفال خصوصا أنه أخبرني أن “عم محمود” يعطي له سيجارة كلما نظف سيارة جيدا …
وعندما دخل أحد أصحاب السيارات إلى الجراچ قطع حديثه معي وهرول مسرعا لكي ينظف السيارة له ويساعده على الخروج، فأسرعت خلفه إلى هذا المكان حيث تفوح من رائحته العفونة وتحضنه الرطوبة من كل الأرجاء، وعندما استأنفت الحديث معه سألته عن ما إذا كان بيته بعيدا عن هنا ؟ وهل يعرف أن يذهب إلى بيته بمفرده …. فنظر لي في تعجب وقال لي أنه يسكن هنا، وأشار إلى مكان نومه في أحد جوانب الجراچ حيث يفترش الأرض ويلتحف غطاء ممزق ومتسخ جدا ووسادة صلبة وخشنة الملمس يحتفظ تحتها برغيفين من الخبز اليابس وقطعة جبن ملتفة في ورقة جرائد… وعند سؤالي عن أبيه وأمه صمت كثيرا واغرورت عيناه .. فنظرت إليه في عطف فقال لي “لا …لا يا أستاذة أوعي تفتكري أنى ابن حرام أنا ابن ناس والهي وأمي كانت بتحبني قوي زمان ذي كل العيال إلى بتشفها في الشارع مع أهليها .. وأمي صبرت علشاني كتير، وكانت تقولي كل شوية أمتى تكبر “يا مروان” علشان أشوف أنا حالي بقه، ولما كبرت شوية ودتني ل ” عم صالح ” علشان يشفلي شغلانه أقدر أكل منها عيش وأعتمد على نفسي وتبقى مطمنه عليا علشان هي كانت أتجوزت وعايزه تسافر مع جوزها الصعيد أصلي أبويا مات من زمان وأنا صغير.. ده أنا حتى معرفهوش …. ، وسعتها حضنتني قوي وقليتلي” مع السلامة يا مروان مسير الحي يتلاقى، فأخدني “عم صالح وادها فلوس كتير فورقة ملفوفه….وجبنى بعدها “عم صالح” هنا للجراج ….”
وهنا خرجت من المكان لأنني شعرت أنني لأستطيع الصمود أمام روايته ورفعت قلبي إلى الله متسألة :
كيف يا الهي تصمت على كل هذا الظلم ؟!
كيف تترك هذا الصغير تركله الأيام من حالا سيء إلى حالا أسوء ؟!
كيف تسمح للقدر أن ينتزع منه أبسط حقوقه وتهب الدنيا للآخر أبعد الأحلام ؟!
ترى ما شعور هذا الوحيد عندما يرمق كل يوم أيادي الأطفال متشبثة بأيدي أبويها في طريقهم إلى منزلهم الذي يفوح منه الدفء والحب ؟!
كيف تترك البشر يمارسون على مثل هؤلاء الأطفال دور الجلاد ببراعة منقطعة النظير باسم الظروف تارة وباسم لقمة العيش تارة أخرى، حتى لا يجدون هؤلاء الأطفال أمامهم سوى الاستسلام لشروط وقوانين مجتمع قاسي لا يرحم ولا يشفق على أحد ؟َ!
—