تجسد الأيقونات المقدسة الرسولين بطرس وبولس ، لتُسهل علينا التمييز بينهما من خلال النظر الى التفاصيل لكل واحدٍ منهما ، كالمفاتيح في يد بطرس، والسيف في يدي بولس .
كما نجد في كتب التعليم المسيحي ، وقصص سير وحياة القديسين تجسيدًا لمشاهد من حياة واستشهاد هذين القديسين اللذين هما عامودين أساسيين للكنيسة . واعتبر التقليد المسيحي أنه لا يمكن الفصل بين القديسين بطرس وبولس : لأنهما يشكلان معًا إنجيل المسيح بكامله . وأن علاقتهما الأخوية بالإيمان اتخذت معنى خاصاً في روما. تعتبرهما الجماعة المسيحية في مدينة روما كمثال مختلف عن الأخوين الأسطوريين رومولوس وريموس اللذين يسند إليهما تأسيس روما . ويمكننا أن نفكر أيضًا بمباينة أخرى حول موضوع الأخوة : في الكتاب المُقدّس نجد الشقيقين الأولين يظهران لنا تأثير الخطيئة ، الذي دفع قايين إلى قتل أخيه هابيل ، ونجد أن الرسولين بطرس وبولس وعلى الرغم من اختلافهما البشري والصراعات التي واجهتهما في علاقتهما، نجحا بإنشاء صورة جديدة للأخوة ، عاشاها من خلال الإنجيل ، وتحققت بفضل نعمة إنجيل المسيح التي تجلت من خلالهما . إن اتباع المسيح فقط يقود الى الأخوة الجديدة : هذه هي الرسالة الأساسية الأولى التي يقدمها لنا هامة الرُسُل بطرس وبولس ، والتي تنعكس أهميتها في البحث عن هذه الشركة الكاملة ، التي يطمح لها كل المسيحيين.
في إنجيل القديس متى الرسول يُعلن القديس بطرس عن إيمانه للمسيح ، معترفًا به كمسيح وابن لله ” أنت المسيحُ ابْنُ اللهِ الحيِّ ” ( متى ١٦ : ١٦ ) . وقد أعلن ذلك بالنيابة عن الرسل الآخرين ، فكشف له الرب يسوع عن المهمة التي سيعطيه إياها، أي بأنه سيكون ” الصخرة ” التي سيبني عليها كنيسته : فأجابه يسوع : ” طوبى لكَ يا سِمعانَ بَن يونا ، فَليسَ اللَّحمُ والدّمُ كشفا لكَ هذا ، بل أبي الذي في السَّمَوات . وأنا أقولُ لكَ : أنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سأبني كَنيسَتي ، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت . وسأُعطيكَ مَفاتيحَ ملكوت السَّمَوات . فما رَبَطَتهُ في الأَرْضِ رُبِطَ في السَّمَوات . وما حَلَلتَه في الأَرْضِ حُلَّ في السَّمَوات ” ( متى ١٦ : ١٧ – ١٩ ) . ولكن بأية طريقة يكون بطرس ” الصخرة ” ؟ كيف سيتمكن من تطبيق هذا الإمتياز الذي لم يتلقاه لنفسه ؟ يخبرنا متى الرسول بأن مصدر الإعتراف بالمسيح الذي أعلنه بطرس بالنيابة عن الإثني عشر ليس من ” لحم ودم “، أي ليس مصدره قدرات بشرية ، بل وحي خاص من الله الآب . ولكن ، فيما بعد ، عندما يعلن المسيح عن آلامه، وموته، وقيامته، يتصرف سمعان بطرس انطلاقًا من ” اللحم والدم ” ، فانفرد بهِ بُطْرُس وجعلَ يُعاتِبهُ فيقول : ” حاشَ لك يا ربّ ! لن يُصيبَك هذا ! ” . فالتفت يسوع وقال لبطرس : ” انسحب ! ورائي ! يا شيطان ، فأنت لي حجرُ عَثرَة ، لأنَّ أفكارَكَ ليست أفكارَ الله ، بل أَفكارُ البشر ” ( متى ١٦ : ٢٢ – ٢٣ ) . هذا التلميذ الذي يمكنه أن يكون بنعمة الله صخرة قوية ، يظهر في ضعفه البشري : حجر عثرة ، حجر قد نصطدم به . يبدو هنا جليًّا التوتر القائم ما بين العطية التي تأتي من الله والقدرات البشرية . وفي هذا المشهد ما بين يسوع وسمعان بطرس . نجد فِي تاريخ البشرية ، هذين العنصرين : الأول هو أساس الكنيسة بفضل النور والقوة الآتيان من العلى ، والثاني يبرز ضعف الإنسان على مدى قرون، وهو يمكن أن يتغير بالإنفتاح على الله فقط .
في هذا المقطع من الإنجيل نقرأ وعد يسوع بشكل واضح : ” أبواب الجحيم ، سلطان الموت ” أي قوى الشر، لن تستطيع أن تقوى عليها ” . يتبادر إلى ذهننا نص دعوة النبي إرميا، الذي قال له الرب عندما أوكل اليه مهمته : ” هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة ، وعمود حديد ، وأسوار نحاس على كل الأرض لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض ، فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك ” (إرميا ١ : ١٨ – ١٩). في الحقيقة إن الوعد الذي قطعه الله على بطرس أكبر بكثير من الوعود التي قطعت على الأنبياء في العهد القديم : فهؤلاء تعرضوا للتهديد من قبل أعداء بشريين فقط ، في حين أنه سيتم الدفاع عن بطرس ضد ” أبواب الجحيم “، أي قوى الشر المدمرة والمخربة . تلقى إرميا وعدًا يخصه ، كما يخص سلطته النبوية . اطمأن بطرس بشأن مستقبل الكنيسة، أي الجماعة الجديدة التي أسسها يسوع المسيح والتي تمتد على مدى الدهور ” وهاءَنذا معَكم طَوالَ الايام إلى نهايةِ العالم ” ( متى ٢٨ : ٢٠ )، أي إلى أبعد بكثير من الوجود الأرضي لبطرس نفسه .
أمٰا رموز المفاتيح تذكرنا بنبوءة النبي إشعيا إلى العبد ألياقيم إبن حلقيا حيث قال : “وألقي مفتاح بيت داود على كتفه، يفتح فلا يغلق أحد، ويغلق فلا يفتح أحد” (إشعيا ٢٢ : ٢٢). يمثّل المفتاح السلطة على منزل داود. وفي الإنجيل ورد قول آخر ليسوع وجّهه إلى معلّمي الشريعة والفريسيون الذين يلومهم الرب لإغلاق ملكوت السموات في وجوه الناس ” الويلُ لكم أيُّها الكتبة والفريسيُّونَ المُراؤون ، فإنكم تُقفِلونَ ملكوتَ السمواتِ في وُجوهِ الناس ، فَلا أَنتُم تَدخُلون ، ولا الَّذين يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون ” (متى ٢٣ : ١٣) . كلّ هذا يساعدنا على فهم الوعد الذي قطعه يسوع على بطرس : فكونه أمين عن نشر رسالة المسيح ، أعطي له مفتاح ملكوت السموات ، وكلّ ما يحلّه على الأرض يحلّ في السماء وكل ما يربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء ( متى ١٦ : ١٩) . إنّ صورة إعطاء المفاتيح وصورة الربط والحل تتشابهان من حيث المعنى وتكمّلان بعضهما . إنّ عبارة ” الربط والحل ” تعود إلى اللغة الربانيّة ، لغة المحبّة والرحمّة ، وتشير إلى السلطة التأديبيّة ، سلطة النصح والإرشاد ، سلطة المغفرة والمسامحة ، لكي لا يبتعد الخاطئ عن الله ويعود إليه بقلبٍ منسحق ، ويردد مع الابن الضال ” يا أبتِ إنِّي خَطِئتُ إلى السماء وإليك َ ” عندئذٍ سيسمع صوت الله قائلاً : ” إفرحوا وتنعَّموا ، لإنّ ابني هذا كان ميتاً فعاش ، وكان ضالاً فوجد ( لوقا ١٥ : ١١ – ٢٤ ) .
في الفصل الثامن عشر من إنجيل القديس متّى الرسول ، والذي يتناول الحياة في الكنيسة ، نجد تأكيدًا آخرًا وجّهه يسوع لتلاميذه : ” الحق أقول لكم : ما رَبطتُم في الأرضِ رُبِطَ في السماء ، وما حَلَلتُم في الأرض حُلَّ في السماء” (متى ١٨ : ١٨) . وفي نصّ ظهور المسيح على التلاميذ مساء الفصح قال لهم ثانيةً : السلامُ عليكم ! كما أرسَلَني الآب أُرسِلُكم أنا أيضاً ” . قال هذا ونفَخَ فيهم وقال لهم : “خذوا الروح القدس. من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم ، ومن أمسكتُم عليهم الغُفران يُمسَكُ عليهم ” (يوحنا ٢٠ : ٢٢ – ٢٣) . على ضوء هاتين المقارنتين، يتّضح لنا أنّ سلطة الحل والربط تكمن في القدرة على مغفرة الخطايا . وهذه النعمة تُبعد الشرّ عن سرّ الكنيسة وسلطتها. فالكنيسة ليست جماعة أشخاص كاملين إنّما خطأة يجب عليهم الاعتراف بحاجتهم إلى محبّة الله ، وبحاجتهم الى أن يُطهروا بصليب يسوع المسيح . إنّ كلمات المسيح فيما يخصّ سلطة بطرس والتلاميذ تبيّن أنّ قدرة الله هي المحبة التي تبسط نورها بدءاً من الجلجلة . وبالتالي يمكننا أن نفهم لماذا في نصّ الإنجيل ورد بعد إعلان بطرس إيمانه للمسيح الإعلان الأوّل للآلام : في الحقيقة ، هزم يسوع قوات الجحيم بموته، وبدمه أفاض على العالم نهراً من الرحمة يسقي بمياهه الطاهرة البشريّة بكاملها.
القديس بولس رسول الأُمَم :
إنَّ التقليد الإيقونوغرافيّ يُصور لنا القديس بولس مع السيف ، وكلنا نعلم بأن ذلك يمثل السلاح الذي قتل به . ولكن عندما نقرأ كتابات رسول الأمم نكتشف أنّ صورة السيف تعود إلى رسالته الإنجيليّة كاملة. فعلى سبيل المثال، عندما شعر باقتراب موته كتب إلى تلميذه طيموتاوس : ” جاهدت جهاداً حسناً وأتْمَمْتُ شوطي وحافظتُ على الإيمان” ( طيموتاوس الثانية ٤ : ٧ ). ليس جهاد قائد كبير ولكنّه جهاد من يعلن كلمة الله ، أمين للمسيح ولكنيسته التي كرّس نفسه من أجلها بالكامل . ولهذا السبب منحه الرب إكليل المجد وجعله مع بطرس عموداً روحياً للكنيسة.
” ذلك بأَنِّي أَصغَرُ الرُّسُل، ولَستُ أَهْلاً لأَن أُدْعى رَسولاً لأَنِّي اضطَهَدتُ كَنيسةَ اللّه ” ( قورنتس الاولى ١٥ : ٩ )
إنّ الكنيسة المقدسة تطبّق بِحقّ على الرسولين مار بطرس وبولس كلمات الحكيم هذه : ” وهُناكَ رِجالُ رَحمَةٍ وأَعمالُ بِرِّهم لم تُنْس . الميراثُ الصَّالِحُ يَدومُ مع ذُرًّيتهم وهّو أَولادُهم ” ( يشوع بن سيراخ ٤٤ : ١٠ – ١١) . نعم ، نستطيع أنّ نسمّيهم بحقّ رجال الرحمة: لأنّهم نالوا الرحمة لهم بالذات ، ولأنّهم مليئين بالرحمة ، ولأنّ الله أعطانا إيّاهم في رحمته .
إذا سألنا القدّيس بولس أيّ رحمة نالوها ، سيقول لنا عن نفسه : ” أَنا الَّذي كانَ فيما مَضى مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا، ولكِنِّي نِلْتُ الرَّحمَة لأني كُنتُ أفعٓلُ ذَلِكَ بجَهالة ، إذ لم أكُنْ مُؤمِناً ، ففاضت عليَّ نعمةُ رَبِّنا مع الإيمان والمحبّة في المسيح يسوع ( طيموتاوس الأولى ١ : ١٣ – ١٤) . من منا لا يَعلَم الشرّ الّذي فعله بولس بالمسيحيّين في أورشليم وحتّى في اليهوديّة بأكملها ؟ إذا كان القديس بولس قد أخطأ، فقد أخطأ بدون معرفة إذ لم يكن لديه الإيمان . أمّا القدّيس بطرس فعلى العكس، إذ كانت عيناه منفتحتان لحظة سقوطه ، ونَكَرَ يسوع أمام الحاضرين ، ثم ندم وبكى بُكاءً مُرّاً ( متى ٢٦ : ٦٩ – ٧٥ ). تنطبق عليه الأية : ” لكِن حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعمَة” ( رومة ٥ : ٢٠ ) . فإن استطاع مار بطرس أن يرتفع لهذه الدرجة من القداسة بعد سقطته الثقيلة ، فمن يستطيع بعد ذلك أن ييأس ؟ لذلك قال عَنهُ متى الإنجيليّ : ” فخرَجَ وبكى بُكاءً مُرّاً ” .
سمعنا أيّ رحمة نالها الرُّسولين بطرس وبولس وأيضا سائر الرُسُل ، فمن الآن فصاعدًا لن يمون أحد من بيننا مثقلاً بأخطائه السابقة .
أخي المؤمن ، إذا أخطأتَ، ألم يخطأ بولس أكثر ؟
إذا سقطتَ، ألم يسقط بطرس أكثر منك ؟
لكنّ الواحد والآخر لم ينالا بتوبتهما الخلاص فحسب ، بل أصبحا قدّيسَين عظيمَين، لا بل رَسولَي الخلاص، ومُعَلّمَين للقداسة. فاعمل أنت كذلك ، لأنّه من أجلك يدعوهما الكتاب المقدّس ” رجال رحمة ” .